كان القرن العاشر الميلادى يلملم أوراقه عندما جاء إلى هذه المدينة العتيقة حاكم جديد اسمه «شاو»، استقل بها وبأهلها عن سائر المدن المحيطة فى بلاد الصين، وبدأ فى إقامة الأسوار العالية التى فصلت «ليچيانج» جغرافيا وسكانيا بشكل كبير، وساهمت فى إفقارها على أثر تعطّل حركة التجارة من وإلى المدينة. اعتمد «شاو» فى حكمه على تعزيز قدراته الأمنية والعسكرية، وتمكّن فى فترة قصيرة من إخضاع جميع أوجه النشاط الاقتصادى فى المدينة لرئاسته، حتى صار الجميع يعملون عند الحاكم، وهو الوحيد الذى يدفع أجورهم ويقتّر عليهم فى الأرزاق. كانت المزارع الممتدة والأسواق المنصوبة وحتى الحوانيت الصغيرة ملكا لرجل واحد، ولا تجبى المكوس والضرائب من الناس تحت هذا المسمّى، لأن المالك الفعلى كان يطلب حقه فى إيراد الأعمال كل شهر، وبالتالى لا تفرض الضرائب إلا على القليل مما يحصل عليه العاملون من أجر العمل، تحت مسمّى التبرع للفقراء.
فى تلك الحقبة العصيبة من تاريخ المدينة فطن الأهالى إلى أن أكثر الناس حظوة عند «شاو» هم الشعراء، فقد كان يجزل لهم العطاء ويفرغ خزائن المدينة فى أفنية بيوتهم، إذا ما جادت قرائحهم بما يسعده ويشبع غروره. بدأ الناس فى تعلّم فنون الشعر، وافتتح كبار الشعراء مدارس لتعليم مبادئ الشعر وموسيقاه، حتى إذا خرجت من بين مئات الدارسين نبتة شاعر واحد مطبوع، كان حظّه من النعيم على أعتاب قصر «شاو» ما لا يمكن إحرازه بأى مهنة أخرى. أهمل أهل «ليچيانج» الزراعة والحرف التى لم تكن تغنيهم أو تسد جوعهم، واكتفت كل عائلة ممتدة بالبحث فى ذراريهم عن مشروع شاعر واحد، عساه ينتشل العشرات من أهله من الفاقة، إن هو نال القرابة من أهل البلاط.
لكن تهافت الخلق على صنعة الشعر، أنتج فائضا من الشعراء الذين لا يتقنون هذا الفن، ولا يتمتعون بأية موهبة تذكر. هنا بدأ «شاو» يمل ما يسمع من الأبيات المتراصّة الخالية من الروح، الناطقة بالنفاق والتراكيب اللفظية السخيفة. لم تكن للحاكم الملول تسلية أقرب إلى قلبه من جمع الشعراء فى بلاطه مرة كل أسبوع، وإقامة مسابقة بينهم، كان الفاصل فيها ما يبديه من إعجاب بالقصيد. فإذا ابتسم وهشّ لسماع الأبيات، كان ذلك إيذانًا لاستمرار الشاعر فى التسابق، وإذا عبس بوجهه أو جال ببصره فى أسقف باحته، كان ذلك أمرا للعسس أن يخرجوا الشاعر ولا يعيدوه مجددا إلى القصر. لكن الفائز من المتسابقين بعد جولات من التصفية هو الذى ينعم عليه «شاو» بالتربيت على كتفه، غير أن كل الشعراء، حتى المطرودين منهم، كانت لهم منحة من الحاكم تميّزهم عن سائر الناس.
• • •
كأى سوق تحكمه مبادئ العرض والطلب، زاد المعروض من الشعراء، وانخفضت جودة منتجهم، وبدأ المستهلك الوحيد فى الزهد فى ذلك المنتج. كانت المسابقة الأخيرة التى يحضرها بائسة، لم يهش فيها لبيت واحد مما سمع، حتى انصرف مغاضبا عن مجلسه دون أن يعلن الحجّاب اسم الفائز. مرت أسابيع منذ تلك الحادثة، لم يدع فيها «شاو» أيًا من الشعراء إلى القصر. حتى بدأ الناس يتهامسون فى الطرقات بأن «شاو» كره الشعر والشعراء، أو أنه وجد لنفسه تسرية أخرى لقضاء وقت فراغه. غير أن هذا لم يكن صحيحا، فقد كلّف «شاو» خمسة من كبار قادته بتشكيل لجنة تصفيات للشعراء، فلا يقتربَن أحد من باحة القصر إلا من تجيزه اللجنة مجتمعة. فى البداية كان القادة الخمسة على وفاق تام، بات يمكنهم الاتفاق على تزكية نفر من الشعراء ممّن يظنون أن «شاو» يحب إنتاجهم الشعرى. لم يكن ذلك صعبا، فلم يفز أحد بالتزكية إلا من سبق له الفوز بإحدى مسابقات «شاو»، كان الفائزون بالتزكية قدامى الشعراء من أصحاب المدارس. انتبه الحاكم إلى ذلك، واجتمع بقادته ليخبرهم أنه غير راض عن أداء اللجنة، وأن الآلاف من أبناء شعبه يملكون ناصية الشعر، ولمّا تسنح لهم الفرصة بعد للظهور. أمهل «شاو» قادته فترة وجيزة حتى يقوموا بتزكية مواهب شعرية جديدة، وإن لم تحظ تلك المواهب بإجماع آراء اللجنة فالأغلبية تكفى للترجيح.
خرج القادة من اجتماعهم بالحاكم وفى ضمير كل منهم ما يخفيه عن زملائه. كسرت إشارة «شاو» اتفاقهم وتوافقهم، وأصبح محتّما عليهم أن يألفوا إلى نوع من التحالف الذى يضمن أن يجيز ثلاثة منهم شاعرا يصلح للقاء الحاكم. سريعا انتبه الحاكم الذكى إلى أن كل الشعراء المجازين بالأغلبية ينتمون إلى عائلات ثلاثة من القادة. كان إنتاجهم الشعرى رديئا وإلقاؤهم للشعر مفسدة للأذواق، حتى وإن اقتربت الكلمات إلى حد تقديس «شاو» ورفعه إلى مرتبة آلهة الصين القدماء. هنا لجأ «شاو» إلى تغيير القادة الخمسة دون جدوى، لأن الخمسة الجدد فعلوا الشىء نفسه، حتى اهتدى الحاكم إلى قرار بإجازة كل شاعر يوافق عليه واحد فقط من القادة، شريطة ألا يعترض عليه أى من الآخرين، طعنا فى معايير اختياره. بالطبع طعن الجميع فى اختيارات أقرانهم، لكن «شاو» فرض عليهم أن يقدّموا البراهين على أسباب طعونهم.
فى البداية خصص «شاو» يوما فى الشهر لفحص الطعون المقدّمة فى الشعراء، ثم وجد أن يوما واحدا لا يكفى، فبدأ فى تخصيص يومين لدراسة وتمحيص الطعون، حتى جعل اليوم الأسبوعى الذى اعتاد تخصيصه لسماع الشعر، مخصصا لفحص الطعون. مرت شهور لم يلتئم فيها جمع واحد من الشعراء للتسابق أمام الحاكم، وقرض الشعر المنظوم فى جلال وحكمة «شاو». بدأ الشعراء يفتقرون إلى العطايا والأرزاق، يبحثون عن أعمال تغنيهم عن التماس بلاط «شاو» أو بالأحرى تغنيهم عن التماس مرضاة قادته المتنافسين. لكن الأرزاق شحيحة فى البلاد، وأسوار «ليچيانج» تضيّق الخناق على ساكنيها. حتى جاء يوم الاحتفال بعيد الربيع، اجتمع الشعراء فى السوق، بدعوة من أصحاب مدارس تعليم الشعر، واتخذوا قرارا بنظم قصيدة للحاكم يخبرونه فيها بمعاناتهم، ولمّا تعذّر اجتماعهم على نظم القصيد، وقع اختيارهم بلا تردد على شاعر واحد، كانوا يعلمون أنه أفصحهم لسانا وأعظمهم بيانا وأخلصهم مأربا. كانت هذه هى المرة الأولى التى ينتخب فيها الشعراء أحدهم، استنادا إلى معايير منصفة تميّز الغث من الثمين، وتخلو من التشاحن والتنافس البغيض.
التف الناس حول الشعراء فى السوق، واستمعوا إلى القصيدة العصماء التى كتبها الشاعر «يونج» فى نحو من مائة بيت، ولم ينقطع تصفيق العامة والشعراء ساعات ترحيبا بحسن صنعة الشاعر. اكتفى الشعراء بذلك التقدير الذى لم يعرفوه قبل ذلك اليوم، واتخذوا قرارا بعدم رفع القصيدة إلى «شاو»، بل نسخوها ووزّعوها على روّاد السوق للاستمتاع بها وحفظها فى منازلهم.
• • •
منذ يوم السوق، تغيّرت أحوال الشعراء والرعية كما تبدّلت أحوال القصر، وصار الشعر منتجا يطلبه الناس ويدفعون مقابل الحسن منه ما يكفى احتياجات الشعراء ويغنيهم عن السؤال. حمل شعراء «ليچيانج» لواء تطوير الشعر الصينى منذ ذلك التاريخ، فكانت قصائدهم تفيض عذوبة وكلماتهم تنزل بردا وسلاما على نفوس التعساء.