«السايكلوب».. سفينة الفن فى واقع عبثى! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 4:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«السايكلوب».. سفينة الفن فى واقع عبثى!

نشر فى : الجمعة 13 سبتمبر 2019 - 2:15 م | آخر تحديث : الجمعة 13 سبتمبر 2019 - 2:15 م

تبدو رواية «السايكلوب» لإبراهيم عبدالمجيد (دار مسكيليانى التونسية)، لأول وهلة، كما لو كانت مجرد عملٍ بسيط كُتب لاستعادة شخصيات من روايات سابقة للكاتب، بينما، لو تأملتَ بصورة أعمق، لاكتشفت فيها مزيجًا معقدًا يمزج ببراعة بين الفن والواقع، ويزاوج بين الحقيقة والخيال، يشهد على الكاتب مثلما يشهد على زمننا المعاصر، يستلهم بحريّة واسعة تراث الكتابة والأسطورة، ويتأمل المسافة الواسعة بين يوتوبيا مفقودة، وحياة يومية تذكرنا دومًا بالعجز والنقص.
سعيد صابر بطل «السايكلوب» هو نفسه بطل رواية «هنا القاهرة» لعبدالمجيد، والمستلهم أصلًا من شخصية واقعية، مخرج مسرحى كان صديقًا للمؤلف، سيتم استدعاء سعيد من خلال سامح عبدالخالق، المعادل الفنى لعبدالمجيد نفسه، لكى يقوم ذلك القادم من مقبرة الواقع والفن، بتأليف رواية عن المؤلف، وعن شخصيات رواياته السابقة.
سعيد صابر انتهت حياته كشخصية فنية بنهاية السبعينيات، وهى نهاية «هنا القاهرة»، ولكنه يشهد فى «السايكلوب» على عام 2018، حيث بُعث بأمر الفن، وبعصا الفنان الذى استلهمه من الواقع، ثم جعله شخصية فنية، أماته وأفناه، ثم قرر أن يبعثه.
هنا مستوى أول لامع وشيق: شخصية فنية تكتب مؤلفها، وشخصيات روائية تولد من جديد فى سياق آخر، ورواية هى فى حقيقتها عن محاولة كتابة رواية مادتها شخصيات روايات سابقة، وكشف مرهف عن علاقة شخصيات الفن بأصلها الواقعى، مثل صفاء الأولى، وصفاء الثانية، ويارا، والبهى، بل ومحاولة رد الاعتبار لشخصيةٍ حقيقية لم تكتب لها رواية، وكانت جديرة بذلك.
«السايكلوب» فى هذا المستوى هى زيارة إلى معمل إبراهيم عبدالمجيد الروائى، يقول لك إن مادتى هى الواقع، ولكن إزميلى الذى يشكل هذه المادة هو الخيال، فانظر كيف يختلط الاثنان معًا، وهذه كتلة من الواقع (شخصية زين عباد الشمس) لم أشكلها فى عمل مستقل، ولكنها كانت جديرة بذلك، ولذلك فهى جديرة باعتذارى عن هذا التقصير، الكاتب يخلق شخصياته ويكتبها، ولكنها أيضًا تكتبه وتؤثر فيه، هنا، فى المعمل، يولد الفن، ويقلد الفن الواقع، وبالعكس، يكتب المؤلف، وتكتب الشخصيات، وكأن السحر يعدى الجميع، ويضع الفن بصمته الخارقة التى لا تزول، فيكتب على قبر شخصية حقيقية اسمها الفنى، وليس اسمها الحقيقى.
هى إذن تحية حارة للحكى، الكل يحكى، والكل يرتدى أسماء أخرى بمن فيهم عبدالمجيد، وتراث الحكايات يمتزج فى عجينة واحدة: السايكلوب يذكرنا بالأساطير اليونانية، وخروج سعيد من قبره لمعاينة ما جرى فى المحروسة، يذكرنا بخروج الباشا من قبره، ليصحبه عيسى عبدهشام فى رحلة معاصرة فى مقامات المويلحى الشهيرة، وشخصيات الرواية هى أصلا شخصيات روايات عبدالمجيد السابقة، وجدل المؤلف مع شخصياته يذكرنا بجدل «بيرانديللو» مع شخصياته التى تبحث عن مؤلف، وسامح عبدالخالق هو عبدالمجيد نفسه، وقد صار شخصية روائية، ليأخذ راحته، فيحاكم نفسه، ويكفّر عما فعله فى شخصياته، وليشهد أيضًا على زمنه.
فى مستوى ثان يُستخدم الخيال المحلّق، ليعلق على واقع تغيّر، خلف اللعبة الفنية مأساة مجتمع على حافة الهاوية، وعبث واقعى أقوى من الخيال، سعيد يريد الابتعاد عن السياسة، ولكنها تحضر فى كل تفاصيل الواقع، سعدية تنقل إليه حلمها بظهور السايكلوب الذى يلتهم البشر، والمؤلف سامح ينقل إليه فكرة مأزق الفن الحالم بالأفضل فى مواجهة عالم ناقص ومحبط، ولكن السايكلوب، وحتى البرابرة فى قصيدة كفافيس الشخصية، لن يكونا حلا على الإطلاق.
تأتلف المستويات الثلاثة فى النهاية: الفنان خالق فنه، ولكن المادة الفنية أيضًا تعلن عن وجودها، تصبح مستقلة وقوية، وإن كانت الكلمة الأخيرة فى يد الفنان، والفن، فى المستوى الثانى، يعيد بناء الزمن ويتأمله، ولذلك فشهادته عميقة على الحاضر، من خلال الماضى، ومن خلال الحلم والخيال والواقع معًا. وفى المستوى الثالث، فإن حل مأزق الفنان الحالم فى مواجهة الواقع الذى لا يتغير، لا يكون بتدمير الواقع، وإنما بكتابةٍ لا تتوقف عن الحلم، ولا تخاف من الشهادة، ولا تتردد فى استخدام كل حيل الساحر.
ربما زاد استطراد السرد فى بعض الأجزاء، تحت إغواء طرافة الحكايات والشخصيات، وربما اختلط الحوار العامى بالفصيح على نحو يصعب تبريره، ولكن «السايكلوب» تظل عملًا متماسكًا ومدهشًا.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات