شيزوفرينيا تاريخية - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شيزوفرينيا تاريخية

نشر فى : الأحد 22 يناير 2023 - 7:00 م | آخر تحديث : الأحد 22 يناير 2023 - 7:00 م

قليل أن أزف لك التجلة.. وأن أشدو بفضلك يا بن بله
فأنت البدر فى فلك المعانى.. وصحبك لا عدمناهم أهله
أبيات من قصيدة كانت مقررة علينا فى المدرسة فى بداية الستينيات من القرن الماضى فى أوج استعار حرب التحرير الجزائرية. والبدر هو أحمد بن بيلا أيقونة النضال ضد الاستعمار الفرنسى، أما صحبة من الأهلة فهم محمد خيضر وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف ومصطفى الأشرف الذين أطلق عليهم الإعلام العربى الأحرار الخمسة بعد أن اختطفتهم فرنسا بعملية قرصنة عندما اعترضت طائراتها الحربية طائرة مدنية مغربية كانت تقلهم فى رحلة من المغرب إلى تونس وذلك فى يوم 22 أكتوبر 1956 قبل أسبوع واحد من العدوان الثلاثى على مصر الذى بدأ يوم 29 أكتوبر، الأمر الذى يوضح أبعاد المؤامرة الإمبريالية على القوى التحررية العربية متمثلة فى مصر والجزائر. وانتصرت الثورة واستقلت الجزائر يوم الخامس من يوليو عام 1962 بعد حرب ملحمية سالت خلالها دماء مليون شهيد.
صار أحمد بن بيلا أيقونة الثورة أول رئيس للجمهورية الجزائرية. ولكن ماذا حدث للأحرار الخمسة الذين رفعتهم الثورة إلى مصاف القديسين ومجدهم العرب من المحيط إلى الخليج وغنى لهم كارم محمود «بسم الأحرار الخمسة مانفوتش التار يا فرنسا؟».
أحمد بن بيلا انقلب عليه رفقاء الكفاح وخلعوه فى يوم 19 يونيو 1965 بعد أقل من سنتين من توليه الرئاسة وألقوا به فى غياهب السجون لمدة 15 سنة أى إنه أمضى فى سجن الجزائر المستقلة أضعاف ما أمضاه فى سجون الاحتلال. أما محمد خيضر فعاش منفيا فى الجزائر حتى اغتيل فى مدريد فى عام 1967، وحسين آيت أحمد فحكم عليه بالإعدام وخفف الحكم فظل معظم حياته فى سجون الثورة، ومحمد بوضياف فظل منفيا لمدة 27 سنة وعاد إلى الجزائر فى سنة 1992 ليتولى رئاسة الجمهورية ويتم اغتياله بعد أقل من خمسة أشهر. نهاية حزينة لمناضل وطنى محبوب أطلق عليه الثوار لقب «سى الطيب الوطنى».
كيف نوصف هؤلاء الرجال أهم أبطال يستحقون التمجيد أم أوغاد يستحقون السجن والقتل؟!
• • •
ملحمة تاريخية حزينة أخرى وقعت فى العراق عندما استيقظت يوم 14 يوليو عام 1958 وقد انقض الجيش العراقى بقيادة عبدالكريم قاسم على عرش البلاد وأسقطوا الملكية وأعلنوا الجمهورية. استقبلنا ثورة العراق بسعادة وحماس كبير فقد سقط مع ملك العراق حلف بغداد الذى خطط له الرئيس الأمريكى آيزنهاور، واستقبلنا العراق فى معسكر القومية العربية والدول التقدمية بكلمات الشاعر محمود حسن اسماعيل التى غنتها أم كلثوم «بغداد يا قلعة الأسود.. يا كعبة المجد والخلود» من ألحان رياض السنباطى، وغنت للثورة أيضا فايدة كامل أغنية شعب العراق من كلمات على مهدى وأيضا من ألحان رياض السنباطى وهى أغنية رائعة غطت عليها عظمة أغنية أم كلثوم.
ومع فرحتنا بثورة العراق وانشغالنا بتنظيم الأشعار والأناشيد لتمجيدها إذا بالحلم يتحول إلى كابوس وبدأت الثورة تأكل أبناءها فحكمت محكمة الثورة التى رأسها فاضل المهداوى ابن خالة عبدالكريم قاسم على رفقاء الثورة عبدالوهاب الشواف وناظم الطبقجلى ورفعت الحاج سرى بالإعدام، وبعد أقل من خمس سنوات انقلب عبدالسلام عارف على رفيقه وسِيق عبدالكريم قاسم مع فاضل المهداوى يوم 8 فبراير إلى دار الإذاعة حيث نفذ فيهما حكم الإعدام رميا بالرصاص أمام شاشات التلفزيون وتم التمثيل بجثثهما وإلقاء رفاتهما فى نهر دجلة ولعلها عدالة التاريخ التى أذاقتهما ما فعلاه بالملك الطفل فيصل الثانى والوصى على عرشه الأمير عبدالإله ورئيس وزرائه نورى السعيد.
ثم يلقى عبدالسلام عارف مصرعه بعد ثلاث سنوات فى عام 1966 فى حادث تحطم مروحية عسكرية لا نستطيع أن نؤكد إن كان حادثا عرضيا أم مدبرا ليتولى الرئاسة شقيقه عبدالرحمن عارف بعد أقل من ثمانى سنوات من الثورة التى أطاحت بالنظام الملكى الذى تورث فيه المناصب طبقا للقرابة العائلية!
ثم فاضت بحور الدم على شاطئ دجلة حتى غمرت العراق كله وانسكبت على الكويت فى عهد صدام حسين.
• • •
أتردد كثيرا فى وضع ثورة يوليو المصرية فى حزمة واحدة مع الجزائر والعراق ولكنى للأمانة التاريخية يجب أن نذكر أن أول وجه عرفناه للثورة كان وجه محمد نجيب بطلّته البشوشة التى أحبها الشعب وتاريخه المجيد فى حرب فلسطين التى جُرح فيها ثلاث مرات ومواجهته لمرشح الملك فاروق فى انتخابات نادى الضباط، أحبه الشعب ورفعه على الأعناق وغنت له ليلى مراد من كلمات جليل البندارى وألحان منير مراد شعاره الذى أطلقه فى بداية الثورة بالاتحاد والنظام والعمل. ورغم كل عطائه عُزل محمد نجيب وأمضى عشرين سنة من حياته قيد إقامة جبرية مهينة، فضلا عما حل بيوسف صديق الذى اقتحم قيادة الجيش وحده وكان محوريا فى نجاح الثورة الذى سُجن لخمس سنوات ثم أمضى قرابة العشرين سنة قيد الإقامة الجبرية. فضلا عما حل بعد قرابة عشرين سنة بضحايا ما سمى ثورة التصحيح التى أدت إلى سجن بعض أفضل رجال مصر: الفريق محمد فوزى الذى حمل على عاتقه إعادة بناء الجيش المصرى الذى عبر القناة وحرر سيناء وهو فى محبسه، ومحمد فائق الذى بدأ كل حركات التحرر فى أفريقيا ورفع علم مصر خفاقا فى القارة.
لقد بتنا كالمصابين بالشيزوفرينيا أو الفصام عاجزين عن التعرف على شخوصنا التاريخية ومعرفة من هم الأبطال ومن هم الأوغاد. بعد هذا السرد المطول ما هى النتيجة المطلوب أن نصل لها؟
هل المطلوب أن نكفر بثوراتنا التى أسقطت حزب بغداد ومشروع آيزنهاور فى العراق، وأخرجت الإنجليز من قناة السويس فى مصر، وأغلقت قاعدة ويلس العسكرية الأمريكية فى ليبيا، وحررت الجزائر من الاستعمار الفرنسى؟. الثورات قام بها شباب وطنى مثالى قليل الخبرة كان يمكنهم أن يحققوا أكثر مما تحقق لو التف حولهم المخلصون والخبراء يقدمون لهم النصح لإقناعهم بأن الأمر شورى ولا خاب من استشار، ولكن بدلا من ذلك التف حولهم المنشدون وحاملو المباخر، ذاك يغنى «ناصر كلنا بنحبك» وهذا يشدو «قول ما بدا لك إحنا رجالك»، وهتف هاتف فى العراق «لا زعيم إلا كريم»، وصفقنا لتخاريف القذافى فى كتابه الأخضر وصيغته الجماهيرية.
لعب المديح برءوس الشباب وكما قال شوقى فى مسرحيته مصرع كليوباترا: «أثَّر البهتانُ فيه وانطلى الزور عليه.. يا له من بَبَّغاء عقله فى أذنيه» فحادوا عن جادة الحق واكتظت السجون برجال شرفاء مخلصين بعد أن توهم القادة أنهم محتكرون للحق والصواب.
ماذا أقول على الثوار؟ لا أجد أبلغ مما قاله شكسبير فى مسرحيته يوليوس قيصر على لسان مارك أنطونيو: «أتيت لتدفن قيصر لا لمدحه».
وماذا أقول عن فترة المد الثورى الذى امتد فى عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى؟ ولا أجد أبلغ مما قاله تشارلز ديكنز فى روايته قصة مدينتين التى تناولت أحداث الثورة الفرنسية:
كانت أفضل الأيام، كانت أسوأ الأيام، كانت عصر الحكمة.
كانت عصر الرعونة، كانت ربيع الأمل، كانت شقاء اليأس.

عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات