الجنيه الحائر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجنيه الحائر

نشر فى : الجمعة 22 أبريل 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 22 أبريل 2016 - 9:50 م
قبل سنوات عديدة امتلأت شاشات التلفزيون بإعلان نال شهرة واسعة وحقق على ــ ما أظن سبقا فى جمع ملايين الجنيهات من المواطنين. «تعاطفك لوحده مش كفاية.. اتبرع ولو بجنيه». جذب الإعلان اهتمام مشاهديه وصار حديث الساعة، وانطلق المتعاطفون يتبرعون دون توقف.
اعترضت عملية التبرع بعض المنغصات كأن ضاق قسم من المواطنين بمشاهد اعتبروها ابتزازا عاطفيا غير مقبول من الناحية الأخلاقية، وقالوا إنها استغلال سيئ لأطفال يتوغل المرض فى أجسادهم فيتسول بها آخرون، مع ذلك تواصلت المسيرة، وتمادى أصحاب المشروع فى توظيف المعاناة وإبرازها.

كانت للجنيه حينها قيمة شبه ثابتة وصامدة فى وجه العوادى، وكان للإعلان وقعٌ يصعب تجاهله. مرت الأيام والسنون وعاد الجنيه بطلا لإعلان جديد. هذه المرة لم يكن إنقاذا لطفل مريض أو مساعدة فى تخفيف ألم مَن لا أمل لهم فى شفاء قريب، بل بات متورطا فى أمور أكثر عمومية وتمييعا.

***

صار الجنيه فى رؤية منفذى هذا الإعلان وبإيعاز من الحاكم الذى أطلق فكرته، دليلا على عمق الوطنية وإثباتا للولاء والانتماء، وانتشالا للبلاد مِن عثرتها المتفاقمة. الجنيه لمصر، وتقديمه لها لم يَعُد تبرعا بل «تصبيحا»؛ مسمى أقل وطأة على المواطنين وأكثر خِفة وشعبوية، وكأنه تطبيق للمثل العبقرى العتيق: «مِن ذقنه وافتل له». يقول الإعلان إن الجنيه سوف يأتى من جيوب المصريين وإليهم أيضا سيذهب، مع هذا تظل وسيلة عودته إلى موطنه الأصلى غامضة مبهمة.

لا شك أن التبرعات التى جمعها الإعلان الأول كانت طائلة، وقد ظهرت ماديا على الأرض. بناء وأجهزة ومعدات وخدمة تقدم وأخرى تستحدث، أما «التصبيحات» فلا يعرف أحد مبلغها ولا يملك المواطنون الذين يحاولون إثبات ولائهم وصدق نياتهم كل صباح، إلا ما تعلن عنه الحكومة من أرقام.

***

بغض النظر عما أصاب الجنيه المسكين من مصائب، يبدو أنه لا يزال يتمتع بمكانة ما فى حياتنا اليومية. بعد نداءات تبرع بجنيه وصَبَح بجنيه ظهر مشروع آخر بدا هذه المرة أكثر جاذبية لعديد المواطنين؛ إذ اتخذ له شعارا يحقق مكسبا أكيدا للأطراف كافة: «اتجوز بجنيه».

لم نر لهذا المشروع إعلانات مكثفة، ولا أغنيات وطنية مُصوَرة، ولا مسئولين مُتحمِسين، ولا ظهرت لقطات لبائسين أو مرضى أو معوزين. سار المشروع دونما جلبة حتى نشرت الصحف خبرا قصيرا عن إدانة صاحبته والحكم عليها بالحبس والغرامة.

تفاصيل المشروع مثيرة، قامت المرأة بترويج فكرته بين الشبان متوقعة أن تجد بينهم صدى وقد كان. قالت إنها تعتزم توفير كُلفة الزواج لكل مَن يشترك لديها. قيمة الاشتراك جنيه واحد يدفعه الشاب يوميا، والمبلغ الذى يحصل عليه فى صورة قرض يسدده على مدى عشرين سنة، يصل إلى خمسين ألف جنيه.

ثمة مَن صدقوا المرأة وأمِنوا لها، وثمة مَن انتظموا فى دفع «الجنيه»، وقد ذكرت الصحف فيما ذكرت أن بعض المشتركين حصلوا بالفعل على قيمة القرض، لكن المرأة امتنعت بعد ذلك عن سداد المبلغ الذى وعدت به آخرين، ولم تلبث أن اختفت وكأنها لم تكُن.

***

أبلغ الشبان المخدوعون السلطات، اتهموا المرأة بالنَصب إذ حصلت على أموالهم الشحيحة دون مُقابل. حين قرأت التفاصيل أدركت أن المرأة قررت بخفة الدم المصرية الأصيلة وبكل ما تحوز مِن مهارات ومناورات طبيعية ورثت بعضها واكتسبت مِن البيئة الخصبة بعضها الآخر، قررت، أن تدخل المَلعب وأن تشارك على طريقتها الخاصة فى «مُولِد» الجنيه الذى يحتضر، وأن تبثَ فيه الروح قبل الخروج الأخير عساها تحظى بشىء مِما تناثر مِن فتاته.

تشبث مَن أعطوا المرأة جنيهاتهم بوهمٍ لا يعقله سوى مَن أغرقتهم متاعب الحياة حتى أطرافِ الرءوس، وبدورها ارتكبت فى عرف القوانين جريمة مُكتَمِلة الأركان، لكنها جريمة أتقنها آخرون؛ ما أنفك نفرٌ منهم يظهر نجما فيخطُب فى الناس ويصول ويجول دون وازعٍ ولا رداع. يمارس كُل حيله على الأكثر منه حاجة، وعلى كل حال أكم من أقنعة للنصبِ مرت بنا وعلينا.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات