زراعة بذور الحرب - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زراعة بذور الحرب

نشر فى : الأربعاء 28 ديسمبر 2022 - 8:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 28 ديسمبر 2022 - 8:35 م

ونستون تشرشل كان تجسيدا حيا للفكر الإمبريالى البريطانى وعرابا لدبلوماسية البوارج التى كانت تفرض إرادة بريطانيا الاستعمارية بالقوة العسكرية. بالإضافة لذلك كان تشرشل أديبا ومن أقدر من ملك ناصية اللغة الإنجليزية، ومن المفارقات أنه بكل تاريخه الاستعمارى وسياساته الداعمة للحرب فقد منح جائزة نوبل للآداب فى عام 1953.
وقد نشر تشرشل قبل فوزه بالجائزة فى سنة 1948 كتابه الشهير «تاريخ الحرب العالمية الثانية» وخط بيده عبارة بليغة يصف فيها سياسة بريطانيا ولخصها فى أربعة مبادئ: «فى الحرب إصرار، وفى الهزيمة تحدٍ، وفى النصر تسامح، وفى السلام نية حسنة»! قول مفوه خطه قلم بليغ صدقه الناس وانخدعوا فيه من فرط بلاغته فكان أبلغ مثال لقول الرسول عليه السلام «إن من البيان لسحرا» وحديث رواه عنه عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه «إن أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان».
• • •
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى والصدمة التى أصابت العالم من هول حجم الدمار والدماء التى سالت خلالها. حاولت بريطانيا تبرير مشاركتها فى الحرب بل فى إشعالها بالقول إنها كانت حربا لإنهاء كل الحروب، وكرست لذلك جهازها الإعلامى الذى وإن لم يصل تأثيره إلى تأثير الإعلام الحديث السائد الآن بإمكاناته التقنية العالية من إرسال تلفزيونى فضائى يغطى أركان الأرض ووسائل إلكترونية، إلا أن بريطانيا كانت مسيطرة على عالم الصحافة بصحيفتيها التايمز والجارديان ثم بإذاعة الـ بى بى سى التى بدأت بثها فى عام 1922 فضلا عن إعلام حلفائها فى الحرب فرنسا والولايات المتحدة. وظهر زيف دعوى الحرب التى تنهى جميع الحروب بنشوب الحرب اليونانية التركية التى نشبت فى عام 1919 ونيران الحرب العالمية لم تكد تخمد. ثم ثورة العراق ضد الاحتلال البريطانى سنة 1920 التى قتلت بريطانيا خلالها عشرين ألف عراقى واستخدمت ضدهم الغازات السامة، والحرب الأهلية الروسية التى مات خلالها الملايين والتى ساهمت فيها بريطانيا وحلفاؤها بجيوش كبيرة فى محاولة لإجهاض الثورة الروسية، والحرب الأهلية الإسبانية التى ارتكبت خلالها الكثير من الفظائع، وامتدت الحروب شرقا لتشتعل الحرب الصينية اليابانية وغربا لتشتعل حرب التشاكو Chako War التى استعرت نيرانها بين عامى 1934 و1935 بين بوليفيا وباراجواى بسبب أطماع شركات البترول الغربية، ويضاف إلى ذلك كله بذور الحرب وعدم الاستقرار التى بذرتها بريطانيا فى الشرق الأوسط بسبب اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
أثبت التاريخ كذب بريطانيا فى ادعائها بأنها دخلت الحرب لإنهاء الحرب ولعل الكذبة الأكبر والأفدح هو ادعاؤها بالتسامح فى النصر. ظهر هذا جليا فى موقفها بعد انتصارها فى الحرب العالمية الأولى وموقفها من ألمانيا الذى كان بعيدا كل البعد عن التسامح وساده التشفى والظلم البين الذى قننته فى معاهدة فرساى التى أذلت ألمانيا وأفلستها ونزعت سلاحها وفرضت عليها غرامات بدعوى مسئوليتها عن الحرب، وإن كان المؤرخ المنصف سيجد أن مسئولية بريطانيا وروسيا عن الحرب تفوق مسئولية ألمانيا بسبب تعنت بريطانيا ورفضها التقدم الصناعى الألمانى ومعارضتها جهودها لبناء قوة بحرية تنافس قوتها كما أن روسيا كانت سبب التداعيات التى قادت إلى الحرب بسبب دعمها لصربيا التى أوت منظمة اليد السوداء التى خرج منها الإرهابى الذى اغتال ولى عهد النمسا فى سراييفو فأعلنت التعبئة، الأمر الذى دفع ألمانيا إلى التعبئة وتبعتها فرنسا ثم اشتعلت الحرب.
دفعت معاهدة فرساى الشعب الألمانى إلى حالة من الفقر واليأس وسقط العرش الإمبراطورى الذى كان يحكم بشكل أوتوقراطى محافظ ليحل محله جمهورية فايمار التى عجزت عن احتواء الغضب الشعبى.
رغم أن رئيسها كان المارشال بول فون هندنبروج أحد رموز العسكرية البروسية المحافظة، ولعل ذلك يرجع إلى تقدمه فى السن فكان قد تجاوز الخامسة والثمانين عندما عين هتلر فى منصب المستشار، وأدت الحالة الاقتصادية وانهيار المارك الألمانى إلى تنامى المد الشيوعى الذى كاد أن يسيطر تماما على البلاد. والأمر الآخر كان تفشى الدعارة والشذوذ والفجور كمصدر للرزق خاصة مع تدفق الأمريكيين والأوروبيين ــ خاصة الفرنسيين ــ لشراء المتعة المجانية تقريبا بسبب انهيار العملة الألمانية، ولعل الفيلم السينمائى الذى قامت ببطولته النجمة ليزا مينيلى الذى عرض فى سبعينيات القرن الماضى باسم كباريه يمثل الانحلال الذى ساد المجتمع الألمانى فى هذا الوقت، وكان رد الفعل لهذا الانحلال وللتهديد الشيوعى عاملا هاما فى صعود الحزب النازى وهو يفسر أيضا الموقف المتشدد الذى اتخذه الحزب من الشذوذ والانحلال.
• • •
ولعل هذه النظرة التاريخية تنبه إلى خطورة ردود فعل الضغوط الداعمة للشذوذ والانحلال سواء كانت ظروف اقتصادية بسبب الفقر والانهيار الاقتصادى الذى أدى إلى ظهور هتلر والنازية التى نتج عنها إلقاء العالم فى أتون الحرب العالمية الثانية أو ما نراه اليوم من ضغوط دولية يمارسها الأوروبيون والأمريكيون لفرض المثلية والفجور على دول العالم وتشويه مفهوم حقوق الإنسان بجعلها على قمة أولوياته.
ولقد بدأت تداعيات هذه السياسة الحمقاء تظهر ببزوغ الأحزاب اليمينية فى أوروبا خاصة فى فرنسا وفى إيطاليا كما رأينا مؤخرا محاولة انقلابية قام بها النازيون الجدد فى ألمانيا انتهت بالقبض على الضالعين فيها، فهل كان ذلك وأدا لمحاولة النازيين الجدد أم أن التاريخ يعيد نفسه ويتكرر ما حدث فى عام 1923 فيما عرف بانقلاب صالة البيرة؟
Beer Hall Putsch الذى انتهى بالقبض على هتلر وأعوانه لكنه عاد للظهور ليصل إلى منصب المستشارية بعد عشرة سنوات فى عام 1933.
وفى الولايات المتحدة رغم إباحة المثلية فإنها ما زالت تشكل خلافا خطيرا فى المجتمع ولعل خطورتها الأكبر تتمثل فى رفض القوات المسلحة، الأمر الذى يهدد الأمن الأمريكى.
لعلنا أيضا نقارن بين تصرف بريطانيا والحلفاء عقب الانتصار فى الحرب العالمية الأولى بفرض رؤية ظالمة ومتطرفة بعيدة عن التسامح أدت إلى عواقب وخيمة على إيطاليا التى سبقتها فى اختيار الفاشية بقيادة موسولينى وانهيار الإمبراطورية النمساوية والعثمانية وروسيا التى كانت الحرب أيضا سببا فى دخولها حرب أهلية طاحنة. ونرى الغرب بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى يرى نفسه منتصرا وقد دانت له الدنيا وقادرا على الإملاء على باقى العالم خياراته السياسية والاقتصادية والعقائدية وقد تجلى ذلك بشكل فج فيما طرحه الإمبريالى فرانسيس فوكوياما فى كتابه «نهاية التاريخ».
هل يقرأ العقلاء فى الغرب الظواهر التى بدأت تتضح أم يتجاهلونها ويستمرون فى طريقهم فيظهر مائة هتلر جديد حتى ينقسم العالم مرة أخرى، ولكن بدلا من أن يكون الانقسام بين معسكر اشتراكى ومعسكر رأسمالى يفصل بينهما ستار حديدى ينقسم هذه المرة بين العالم السوى وعالم قوس قزح يفصل بينهما ستار من القيم والأخلاق والدين.
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات