قصص قصيرة جدا - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصص قصيرة جدا

نشر فى : السبت 30 أبريل 2022 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 30 أبريل 2022 - 8:00 م
بدأ الكاتب الفرنسى الخمسينى، ريجيس جوفريه، منذ العام 2007، مشروعا أدبيا مختلفا عن ما سبق له من أعمال، إذ أصدر كتابا بعنوان (Microfictions) أى «تخيلات صغيرة» أو «قصص قصيرة جدا»، تتوالى فيه النصوص وفق ترتيب أبجدى حتى تشكل رواية فى مجملها. قصص يصل عددها إلى خمسمائة، لا يتعدى طولها صفحتين، ولا تخلو من العبث والسخرية والجنون، مستلهمة من الحياة اليومية، يمكننا أن نقع على شخوصها فى الشارع ساعة عصارى، بحسب تعبير المؤلف. نجح هذا الشكل المغاير للرواية فى جذب الانتباه من حينها، وقرر جوفريه التجربة فنشر جزءا ثانيا عام 2018، وثالثا فى شهر مارس الماضى.
يصف الكاتب نفسه بأنه «صانع حكايات»، يحب أن ينسج حيوات بسيطة فى تكثيف وعمق لسيدة فى مطبخها تحاول طهو فخذ خروف فى الفرن، أو لبنت فاتها قطار الزواج وتحولت إلى قاتلة معتوهة نتعاطف معها أو لرجل أصابته الكورونا استقل المصعد ليترك أثره على الآخرين دون أن يجد فى ذلك غضاضة... تَهَكَمَ المؤلف فى كتابه الأخير من حالة الخوف المزمن الذى أصابنا بسبب الجائحة، خوف من العدوى وخوف من العزلة سنتذكرهما طويلا. قصصه القصيرة المتتالية تؤرخ لمجتمعنا، بكل فوضاه وكذبه وتضليله وتفاهته وإحباطاته وشروره وخبله وتناقضاته، وقد اتخذ ريجيس جوفريه لنفسه سبيلا بعيدا عن سياسات النشر الرائجة والتصنيفات الكلاسيكية، بل توقف هو نفسه عن متابعة الكثير مما يصدر من مؤلفات واكتفى بكتب الفلسفة. رفض اعتبار أعماله الثلاثة الأخيرة مجموعات قصصية وأصر على كونها رواية ذات بنية غير تقليدية، تمتلئ بالشخصيات إلى حد التخمة، مؤكدا على أن الأدب لا يجب أن يتوقف عن تطوير أجناسه وكسر القوالب، وأن القراءة فعل إرادى، وبالتالى على المتلقى محاولة اكتشاف كل جديد.
• • •
وبالطبع سيكون هناك دوما ما هو جديد، فقد رأينا كيف تغير شكل الحكى مع ظهور الإنترنت ومن بعده تغريدات تويتر وقصص السناب شات والانستجرام، إلى ما غير ذلك. تغيرت أيضا عادات القراءة وطرق التلقى، وصار المخ يُقبل على ما هو أسرع أو ما يأتى فى شكل شظايا وشذرات.. صار هناك تشتت وتشبع بسبب الرقمنة، وتزايد الحديث فى الآونة الأخيرة عن القصة القصيرة جدا التى لا تتجاوز ثمانمائة كلمة، بل قد تأتى فى مائتى أو مائة كلمة وربما أقل، وهى ليست بدعة إذ عرفناها من قبل بواسطة كتاب مشهورين.
على سبيل المثال لا الحصر، تعددت الحكايات حول قصة إرنست هيمنجوى القصيرة جدا التى صاغها فى ست كلمات فقط وهو يتناول العشاء أو الغذاء مع كُتاب آخرين، حين نقش على منشفة أمامه «للبيع: حذاء طفل لم يستعمل قط» ( For sale: baby shoes، never worn). تعددت الروايات حول هذه الحادثة، بل وشكك الكثيرون فى صحتها، إذ قال البعض إنها ربما وقعت فى نيويورك أو باريس، وتفاوت تاريخها بين عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت، فى حين أكد آخرون أن هيمنجوى كسب الرهان ودفع كل واحد من أصدقائه عشرة دولارات خلال دقائق، بما أن قصته القصيرة جدا تحولت إلى مثال للتدليل على صحة البنية السردية، فهى حكاية أهل اشتروا حذاء لطفل ينتظرونه لكنه لم يلبسه قط لأسباب لا نعلمها، لكن يمكن تخيلها.
• • •
يذكر البعض مثالا آخر فى هذا السياق وهو كِتاب بعنوان «قصص فى ثلاثة سطور» (Nouvelles en trois lignes) للناقد والمؤلف الفرنسى فيليكس فينيون الذى عاش فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان هذا الأخير قد كُلف بكتابة أخبار الحوادث فى إحدى الصحف اليومية الفرنسية عام 1906، واشتهر بقدرته على صياغة القصة الخبرية فى ثلاثة سطور فقط، وبعد وفاته تم تجميع هذه القصص بين ضفتى كتاب صدر عام 1948 لأنها تعبر عن ملامح عصر بمنتهى الإيجاز والقوة، وأشاد به السرياليون وشبهوها بقصائد الهايكو اليابانية التى تكتب عادة فى ثلاثة أسطر.
وأحيانا يذهب النقاد لعصور أبعد ليوضحوا الأصول التاريخية لظاهرة القصة القصيرة جدا ويستندوا إلى «حكايات إيسوب» وهى مجموعة من الحكايات الخرافية والأساطير اشتهرت حول العالم ونُسِبت إلى بحار وقاص إغريقى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد. وعلى هذا النحو، نربط بين حكايات إيسوب القصيرة جدا وبين محاولات أخرى لكافكا وتشيكوف وغيرهم كثر جذبهم سحر الإيجاز وأرادوا أن يجربوا كما سيغامر آخرون. نراقب أيضا شخصيات ريجيس جوفريه التى تأتينا مثل حشود من البشر، نلتقيهم فرادا وسط الزحام.
التعليقات