صبى صغير لم يتجاوز السادسة نحيل الجسم واسع العينين تطل منهما نظرة تطلع، يحب العلم حبا جما، يذهب كل يوم إلى أحد مساجد السويس، حيث يحفظ القرآن والأحاديث ويتعلم الشعر والأدب على يدى أستاذه الشيخ سيد النحاس كفيف البصر «إمام مسجد الكبير» الذى لم يكن أحد يجهله لعلمه وفقهه ورأيه وحكمته وزهده وشجاعته.
كان الصبى يحزن كلما رأى نور عينى الشيخ وقد انطفأ للأبد: كان يحدث نفسه: «ما أنكد هذه الآفة، إنه ليؤثر الموت على هذا الحرمان الوجيع من ومضت النور وهمسات ظلاله».
كان والد الطفل موظفا فيه وسامة وأناقة وغنى وسعة ومحبة للعلم والأدب والشعر.
استغرب أهالى السويس أن يزج الموظف المسيحى بابنه ليحفظ القرآن ويتعلم الشعر، وتعجبوا من الشيخ كيف يبذل هذا الجهد مع الصبى المسيحى رغم رفضه لتدريس بعض أطفال المسلمين.
حاول أن يفهمهم أن القرآن للجميع وخاصة النابهين، «ولكن القلوب التى لا يعمرها نور الحب لا تستجيب إلا للأثرة والأثرة تتغذى بالعداء لا بالولاء كما حكى الصبى عن هذه الأيام».
أضمر الشيخ فى نفسه أمرا فجمع المعترضين بعد صلاة العصر وأمر الصبى أن يقرأ سورة الضحى ويشرحها، فقرأها بلسان قويم وإيقاع سليم فهو العاشق الولهان للعربية، ثم شرح معانيها مستدلا بحياة الرسول «صلى الله عليه وسلم»، ومن يومها أصبح الصبى القبطى مثار إعجاب وتقدير من الكبار جميعا.
بهر الشيخ تلميذه الصبى بشخصيته المشرقة وسماحته، كان يشرح له فى الإنجيل كما يحفظه القرآن، قال الفتى بعد ذلك عن أستاذه بأنه «خزانة أدب وعلم وفقه وفلسفة وخلق، فقد كان موسوعة كاملة».
ذهب الصبى إلى شيخه يخبره بتفوقه فى امتحان نصف العام، فشرح له:
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت فى مرادها الأجسام
وأتمها بقوله تعالى: «ولا تمْش فى الأرْض مرحا إنك لن تخْرق الأرْض ولن تبْلغ الْجبال طولا» حتى أوصله إلى غايته «فى تحقير الغرور إلى قلب الصبى».
ظهر تفوق الصبى فى السويس كلها، حتى أنه كان فى الصف الأول ويصوب الأخطاء للفرقة النهائية الابتدائية فيلزمهم المدرس بالوقوف والتصفيق له، وقد كلفه ذلك علقة ساخنة من هؤلاء الطلبة الكبار أصحاب الشوارب ولعبوا الكرة بطربوشه ومزقوا ملابسه وجرحوه.
ولما حكى لشيخه واساه بقوله: «آية الفضل أن تعادى وتحسد».
كل العداوات قد ترجى إزالتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد.
فاستشعر الصبى العز بعد الذل والكرامة بعد الهوان، فلما التأمت جروح كرامته ذكره بقول المسيح عليه السلام «أبت أغفر لهم فإنهم لا يدرون ما يفعلون».
شعر أن شيخه القزم الكفيف عملاقا فسكنت إليه نفسه وأخذها بأدبه وفضله.
وفى يوم من الأيام أقبل خادم الشيخ فقال الصبى لأستاذه: «الولد حضر يا مولانا، الولد خادمك؟» فانتفض الشيخ غضا يوبخه ويذكره ويعلمه هدى الرسول وصحابته والأنبياء من أدب رفيع فى معاملة خدمهم، وقال للصبى: «أرجو أن تفكر حتى الغد وفى مخدعك، ماذا لو كنت مكان أحد مما نسميهم خدما؟ فإنه مثلنا والدهر الذى جار عليه جار على سائرنا».
أرق الفتى ليلة وقد تصور أباه قد مات، وتصور نفسه يلقى الركل والسباب والإهانة خادما فى بيت كبيته هذا، فطار قلبه وعزم على أن يكون رفيقا رقيقا بالخادم فى بيته.
ولما رأى أمه تسب الخادم لكى تحثه على قضاء حاجاتها ثار بها وأسمعها شيئا من آداب النبوة والصحب مع الخدم فاحتقن وجهها وأخبرت أباه وقيل له: لا درس لك اليوم، وذهب أبوه إلى الشيخ فحدثه بما كان فقال له الشيخ: «هل ترضى منى أن آخذ ولدك بغير الأدب الأكمل والنهج الأقوم أو أن أعرف الحق وأحيد عنه، فقال له الأب: «ولكن الله يا مولانا رفع الناس بعضهم فوق بعض وداول الدنيا بينهم».
فقال له الشيخ: «أما قرأت الإنجيل؟ ألم يغسل المسيح عليه السلام أقدام حوارييه؟ آداب الرسل ليس فيها تفاوت ولكن التفاوت عندنا حين نفرط فى لباب الدين لنتعلق بزفاف الدنيا.
أعاد الأب على زوجته حديث الشيخ وأخبرها أن الفتى مستأنف درسه منذ الغد فما كان ليحبسه عن كنز الحكمة الذى رزقه الله فى صورة هذا الشيخ.
همس الهامسون فى آذان الأب: كيف تخاطر بابنك المسيحى مع هذا الشيخ الذى يمكن أن يفتنه عن دينه ودين آبائه؟!.
وجد الصبى والديه يقرآن له فصولا من الإنجيل ويرسلانه دوريا إلى الكنيسة، فذكر ذلك لشيخه بعد تحرج، فقص عليه قصة غاندى وكيف كان يصلى بآى من القرآن والإنجيل والتوراة والبرهما يوترا، وحكى له عن متصوفة الإسلام، ومحيى الدين بن عربى وبيت شعره الشهير:
أدين بدين الحب آنى توجهت *** ركائبه فالحب دينى وإيمانى.
وشرح للصبى كيف أن لباب الدين واحد، وهو عبودية الله ونفع الناس ثم قال له: «اقرأ يا بنى كتابك بنفسك واعلم أن كل دين ينهى عن مقالة السوء وفعل السوء وتفكير السوء».
ذبحت أسرة الفتى كبشا كان يحبه اسمه «سعد» فركبه الهم والحزن فسخروا منه قائلين: «تحب خروفا كأنه أخوك» فسأل الشيخ عن ذلك فقال له: «الحب شىء جميل حتى لو كان لشىء تافه، فليست قيمة الحب فيما نحبه بل فى حبنا له، ولك أن تفرح لأن لك قلبا سخيا وفؤادا ذكيا».
وبعد سنوات رحل الفتى من السويس ولم ير الشيخ بعدها ولكنه ظل قائما فى عقله ونفسه ولسانه، فقد فتح عينيه «على احتقار الجاه واحترام العقل وشجاعة الرأى».
هذا الصبى هو د. نظمى لوقا «أستاذ الفلسفة» وواحد من أعظم أدباء عصره الذى عشق محمدا والمسيح، وحفظ القرآن ودرس الإنجيل، وعشق عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب والمتنبى، وغاندى الذى قتل بيدى هندوسى متعصب بأنه أصر على حق المسلمين فى تأدية شعائرهم فى الهند.
د. نظمى لوقا «الأديب الكبير الذى لم يغير ديانته» والذى أثرى المكتبة العربية بأجمل الكتب وعلى رأسها «محمد الرسالة والرسول، محمد فى حياته الخاصة، الله وجوده ووحدانيته بين الفلسفة والدين، وأبوبكر حوارى محمد» وله ديوانان من الشعر ومجموعة قصصية وعشرات الكتب الأخرى.
رحم الله د. نظمى لوقا وشيخه وكل من أحب الرسل والأنبياء وأحب الله سبحانه وتعالى وعبده.