«شكل الماء».. مغامرة فنية فى محبة الآخر - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«شكل الماء».. مغامرة فنية فى محبة الآخر

نشر فى : الخميس 1 مارس 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الخميس 1 مارس 2018 - 9:10 م

ليس فيلما عظيما بحالٍ من الأحوال، ولا عملا استثنائيا خارقا، ولكنه مغامرة فنية طموح ومدهشة ومثيرة للاهتمام. التحدى الفنى الصعب فى فيلم «شكل الماء» الذى كتبه وأخرجه «جويلليمو ديل تورو» ليس فيما قاله، وإنما فى الطريقة المركبة التى قاله بها، والتى تكشف عن شغفٍ حقيقى بعالم الفانتازيا والوحوش، بنفس الدرجة التى يقدم بها التحية للسينما وللقصص الدينية وللأفلام والأغنيات القديمة. وبنفس الوعى الذى يحلل فيه صراعات أيديولوجية خائبة، ومن خلال مزيج معقد من أنواع مختلفة من الأفلام، ينحاز جويلليمو ديل تورو للتسامح، ولقبول ومحبة الآخر، ولسحر الحب القادر على صنع المعجزات.

فى رأيى، فإن المزيج لم يكن متجانسا على طول الخط، وأن هناك بعض السذاجة والسطحية أحيانا فى المعالجة، ولكن التجربة تستحق التقدير، خاصة مع وجود عناصر فنية رفيعة المستوى كأداء الممثلين والتصوير والمونتاج والإخراج والديكور والموسيقى التصويرية.

قانون الفيلم هو «الفانتازيا»، مع حرية فى استلهام الحكايات والأفلام والأغنيات، وإذا كان محور القصة حكاية حب «إليزا»، عاملة النظافة الوحيدة اليتيمة الخرساء، لكائن برمائى غريب الشكل عثروا عليه فى أمريكا الجنوبية، وأحضروه لإجراء دراسات عليه، فى مركز سرى لأبحاث الفضاء فى مدينة بالتيمور الأمريكية فى العام 1962، فإن الفكرة تتجاوز «إليزا» والكائن، لكى تستوعب معنى وأهمية التواصل مع الآخر المختلف، فالشخصيات الثلاث التى ستساعد إليزا فى تهريب الكائن البرمائى من المركز الفضائى، لا تقل اختلافا وتفردا عن إليزا:

جارها وصديقها الرسام العجوز «جايل»، ترعاه وتجهز له الطعام، وهو لا يفعل شيئا إلا أن يرسم لوحات إعلانية يتم رفضها، ثم إنه مثلى وحيد وبلا مستقبل، وصديقتها وزميلتها عاملة النظافة السوداء البدينة «زيلدا» التى رغم زواجها، فإنها أيضا وحيدة، تشكو من تجاهل زوجها، لا كلمة شكر، ولا عبارة حب، وكأنها خادمة فى بيتها.

أما الشخص الثالث الذى ساهم فى إنقاذ الكائن البرمائى فهو العميل السوفيتى «ديمترى»، الذى زرعوه فى المركز الفضائى الأمريكى، هو جزء من معارك الحرب الباردة، والصراع ليس من أجل العلم، وإنما من أجل التفوق، ولكن ديمترى، الذى اخترعوا له اسما مستعارا هو د.روبرت هوفستيللر، يرفض أن يقتل الكائن البرمائى، ولا ينسى أبدا أنه عالم وإنسان، قبل أن يكون منتميا إلى وطن وأيديولوجيا، يعرف أن ثمن هذا الاختلاف باهظ، وسيدفعه فى نهاية الأمر.

يمكن أن نقرأ الفيلم بأكمله بأنه اتحاد ثلاثة أفراد مختلفين، يشعرون بالوحدة، فى سبيل إنقاذ كائن مختلف يحبونه، ويقف فى مواجهة هؤلاء شخص فظ هو الكولونيل ريتشارد ستريكلاند، هو الذى جلب الكائن البرمائى من مكانه فى أمريكا الجنوبية، وهو أيضا صاحب القرار فى المركز الفضائى السرى، الشخصية عموما كأنها خارجة لتوها من حكايات الكوميكس، وتعبر بوضوح عن النموذج الفظ الاستهلاكى، لديه أسرة وأطفال وعائلة وسيارة، ووظيفة يدافع عنها حتى الموت؛ أى أنه تجسيد للحلم الأمريكى، ولكنه رجل بلا قلب أو عاطفة، مادة شرسة متحركة تؤدى الواجب بامتثال.

ما يربط إليزا بالكائن أكثر من الحب، كأنه مخلص قادم يمنحها الاعتراف، نعرف أنها يتيمة، وعثروا عليها أيضا فى الماء، وعلى رقبتها جروح قديمة غامضة، يفتح ذلك الباب لتأويلاتٍ كثيرة، لعل الكائن جزءٌ من ماضيها المستمر فى الحاضر كالنهر، ولكن يكفيها أنه فهمها بالإشارة، وأنه تجاوب مع حبها للموسيقى والرقص. تفاصيل شخصية إليزا، بأداء سالى هوبكينز المعبر والمؤثر، هى أفضل ما فى الفيلم.

الحكاية لا تكتفى بذلك، ولكنها تتضمن إشارات كثيرة إلى أغنياتٍ وأفلامٍ قديمة، وكذلك إحالات إلى قصص دينية توراتية مثل «شمشون ودليلة»، وقصة «روث»، التى تعرضها السينما أسفل شقة إليزا.

روث تتشارك مع إليزا فى أنها أيضا امرأة مختلفة، قوية الشخصية، اختارت أن تترك بلدها، وتغير مصيرها، وهى جدة النبى داود، إنها مرة أخرى تيمة الشخص المختلف الذى يجب أن يكون موجودا ومُعترفا به، لأنه ضرورى ولازم، والستينيات كانت فى أمريكا نقيضا لذلك: رفض للسود، وللآخر المختلف، وصراع خطير مع السوفييت.

ملاحظاتى تتعلق فقط بالسهولة التى يتم بها اختراق المركز الفضائى، إنه يبدو كالبيت المفتوح، ظهرت اللعبة ساذجة نوعا ما، صحيح أن هناك نبرة ساخرة تغلف المعالجة بأكملها، وبالذات السخرية من أفلام الجاسوسية، إلا أن ضعف الجانب الأمنى فى المركز أضعف الصراع والحبكة.

يُضاف إلى ذلك، أن مشاهد العنف (مثل تكسير الأصابع، والتهام الكائن لإحدى القطط) يمكن أن تتناسب مع فيلم جاسوسية، أو مع فانتازيا الوحوش والمسوخ، ولكنها متنافرة بشدة مع الغلاف الرومانسى الأشمل للحكاية كلها، لذلك أقول إن المزيج لم يكن متسقا على طول الخط، ولكننا عموما أمام مخرج كبير، اختار فريقا مميزا للغاية من الممثلين، خصوصا سالى هوبكينز (إليزا)، والمخضرم القدير ريتشارد جينكينز (جايلز)، والظريفة بارعة الأداء أوكتافيا سبنسر (زيلدا).

أحببتُ كثيرا انتقالات مونتاجية مدهشة أفضلها هذا المشهد الذى تتخيل فيه إليزا، أثناء تناولها الطعام مع الكائن، إنها تغنى وترقص معه فى فيلم بالأبيض والأسود، ثم تعود إلى مائدتها لتنوب الإشارة عن الكلام، المشهد فى معناه بديع، إنه يزيل الفاصل بين الإشارة والصوت والغناء، ويقول ببساطة إن المهم هو المشاعر والعواطف، مهما اختلفت طرق التعبير عنها، كما أنه يُدخل الشخصيات إلى مشهد سينمائى، فى تحية جديدة للسينما الحاضرة أيضا كمكان فى الأحداث، إنها الطابق الأسفل فى بناية إليزا، وعندما تفتح الماء ينهمر على السينما، وكأن حكاية إليزا تفتح على السينما، أو كأنها جزء منها، وهناك تعاطف حقيقى مع مدير السينما الذى لا يجد زبائن، ربما لمنافسة التليفزيون الحاضر فى كثير من المشاهد.

هذا فيلمٌ عن المستقبل الذى لا يمكن أن نربحه بسيارة كاديلاك، وإنما بالحب، وبقبول الآخر، وإعجاب الجمهور بالفيلم يعنى أنهم صدقوا أن تعشق امرأة كائنا غريبا، وأن تنقذه لأنه مختلف، لعلهم يستطيعون الآن تصديق أنهم يجب أن يفعلوا ذلك أيضا مع بعضهم البعض.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات