«على حلة عينى».. عن التمرد بالغناء - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«على حلة عينى».. عن التمرد بالغناء

نشر فى : الخميس 2 يونيو 2016 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 3 يونيو 2016 - 10:54 ص
ربما لا يعبر عن معنى الفيلم التونسى/الفرنسى المشترك «على حلة عينى» من إخراج ليلى بوزيد مثل هذا المشهد: ترفض الأم حياة أن تذهب ابنتها فرح إلى حفل تغنى فيه مع فرقتها أغنيات بلون السياسة والتمرد، تشعر الفتاة بالحيرة، تقرر أمرا فى لحظات، تغلق باب حجرة النوم على أمها، تحبسها، ثم تذهب لتغنى.

الفيلم الذى تدور أحداثه فى عام 2010، وقبل سقوط زين العابدين بن على، يرى الثورة بالأساس صراعا بين جيلين: آباء مكسورون، وأبناء متمردون، ويعبر عن التمرد بفعل الغناء، فيقترب كثيرا من فيلمنا المصرى «ميكروفون»، الذى كان من أبرز الأفلام، التى استخدمت الغناء كمعادل لجيل قادم، لن يمنحه أحد الميكروفون، إلا إذا انتزعه هو بنفسه.

قد تكون رؤية «على حلة عينى»، وهو تعبير تونسى معناه «بمجرد أن فتحت عينى»، تبسيطية إلى درجة واضحة، وقد نلاحظ الكثير على نصف الفيلم الثانى بالذات، ولكن الفيلم يترك على وجه العموم أثرا قويا فيمن يشاهده، ويقدم أغنيات مدهشة ومعبرة بألحان خيام علامى، وهى أفضل عناصر الفيلم، ويصلك تماما معنى الانفصال بين الأجيال، وكأن هناك طريقتان للحياة.

لا ينتهى الفيلم بالثورة، ولكنه ينتهى وقد تحولت الأم حياة (غالية بن على) إلى مساندة ابنتها فرح (بيه مظفر)، بعد أن خرجت الأخيرة مكسورة من تجربة الاعتقال، الأم تحرض ابنتها على الغناء، تساعدها على الإمساك بالكلمات واللحن، تذكرها بما رأت فرح فى الأغنية عندما فتحت عينيها، تذكرها بالغلابة والمهمشين والمنبوذين والمهاجرين إلى الشمال الذين تحدثت عنهم، تقفان معا فى شرفة تحمل الضوء، تردد فرح وراء حياة بصعوبة، وكأنها تقاوم بالغناء، ردا على تحذير المحقق الشرس لها من معاودة الغناء، كأن فرح تتعلم الكلام من جديد من حياة.

ينحاز الفيلم المرصع بنحو 24 جائزة عربية وأجنبية (منها المهر الذهبى فى مهرجان دبى، وجائزة الجمهور فى فينيسيا، والتانيت البرونزى فى مهرجان قرطاج) إلى جيل الشباب، وهو بالأساس جيل ينظر إلى الشمال، ويعيش حياته على الطريقة الغربية، والقيمة الأهم عنده هى «الحرية»، فرح وصديقها برهان (منتصر العيارى) وأفراد الفرقة يمثلون هذا الجيل، ومعهم الخادمة السمراء أحلام، التى تعمل فى منزل فرح.

بطلتنا الصغيرة فرح حصلت توا على الثانوية العامة، وتريد دراسة الموسيقى، بينما تريد لها الأم حياة أن تدرس الطب، لتكون مثل أفراد أسرة الأم، تبدو فرح منطلقة، تعشق الغناء، ولكنها أيضا خائفة، حتى فى علاقتها الخاصة مع برهان، فإنها تريد الاختباء والتخفى، بينما يبدو هو أكثر جرأة سواء فى التعبير عن مشاعره فى أى مكان، أو فى كتابة كلمات أغنياته عن جيل «يدور ويدور ويدور»، وعن تلك الخمور التى لا تنقذ إنسانا من الملل المحيط به، أما الخادمة أحلام، فهى لا تقل حيوية عن جيلها، خفيفة الظل، تدرس الهندسة، وتعمل، وتتسلى بعلاقة تليفونية بشاب لا يراها، وتنادى أفراد الأسرة بدون ألقاب، وكأنهم أسرة بديلة، بعيدا عن قريتها، وشقيقها الذى يأخذ نقودها.

الجيل العجوز تمثله حياة، وهى تمتلك ماضيا ثوريا مثاليا، وقصة حب لم تنجح، أصبحت الآن أكثر واقعية، تدفع زوجها، والد فرح، الذى يعمل بعيدا عن العاصمة، أن ينضم إلى الحزب، لكى ينقلوه إلى تونس العاصمة، وتقف حياة ضد ابنتها المتمردة، تختار لها كلية الطب، وتحاول منعها من التواصل مع زملائها المراقبين من الشرطة، بسبب أغنياتهم السياسية..

تكره حياة فى فرح التمرد القديم، ولا تكتمل الصورة إلا بظهور رجل الأمن المنصف، وهو نفسه حبيب الأمس الذى هجرته حياة عندما اختار طريقا آخر، المنصف سيحذر حياة خوفا على ابنتها من الاعتقال، وستعامله بجفاء، ثم تلجأ إليه فى النهاية، لكى تعرف طريق ابنتها المعتقلة، أما زوج حياة، ووالد فرح، فهو يبدأ مثاليا متمسكا برفض الانضمام للحزب، ثم ينتهى بالموافقة، لكى يعيش فى تونس العاصمة، إنقاذا لابنته.

جيل الآباء لدى ليلى بوزيد، التى اشتركت فى كتابة الفيلم مع مارى صوفى شامبون، مكسور أو مشارك فى القهر، أو متراجع عن موقفه، أو هارب من الواقع بالخمر مثل الرجل العجوز الذى تلتقيه فرح فى ألحانه فتغنى له، بينما جيل الأبناء متمرد ومغامر، ولذلك يبدو الصدام حتميا وعنيفا: الأم تقود السيارة بسرعة ومعها ابنتها فرح، تهددها بأن يموتا معا إذا لم تترك الفرقة، والشرطة تخترق الشباب، وتوقع بين أفراد الفرقة، وتجند «على» مديرها، يسلمهم تسجيلا بأغنية سياسية كتبها برهان، ثم يصل العنف إلى فرح، تبكى مثل طفلة، وتتعهد بعدم الغناء.

ربما تكون نقطة التحول عند حياة عندما يقبضون على ابنتها، هنا تنحاز من جديد إلى ماضيها القديم. المنصف، حبيب الأمس، يساعدها، لا يقدمه الفيلم بصورة فجة، إذ إنه أيضا لا يملك من الماضى سوى حبه الصادق لحياة، يقابلها فى مكانهما المفضل، يرفض استغلال الموقف، ويعطيها معلومات عن اعتقال فرح، فى جيل الآباء بقية من نور خافت قديم.

الجزء الأول من الفيلم مفعم بالحيوية والغناء، ثم يصطنع الفيلم أزمة لكى يترك برهان حبيبته فرح، وندخل فى محاولة «على» أن يتقرب إلى فرح كبديل عن برهان، ولكنها ترفض مدير الفرقة، ويستأثر اختفاء فرح والقبض عليها واستجوابها بجزء كبير من نصف الفيلم الثانى، وكأننا أمام فيلم قصير مختلف روحا وأسلوبا، تغيب الأغانى تماما، قد تكون الفرقة منعت من الغناء، ولكن من السهل أن نسمع الغناء على شريط الصوت، بل لعل ذلك أقرب إلى فكرة الفيلم الأساسية فى ضرورة استمرار الغناء رغم كل شىء، تتوارى حيوية التعبير وتلقائية الشباب لصالح «كليشيهات» أفلام «الاختفاء القسرى والاستجواب السياسى» على طريقة سينما أمريكا اللاتينية، نتململ خوفا من نهاية متوقعة بقيام الثورة على «بن على» وعزف النشيد الوطنى، ولكن ليلى بوزيد تنقذ فيلمها بطريقة ذكية وواعية: الأم تعيد ابنتها إلى الغناء أمام شرفة تعكس شلالا من النور.

تبقى فى ذاكرتك بعد المشاهدة أداءات تشخيص جيدة: الكبيرة حقا غالية بن على فى دور الأم، فى اللقطات القريبة، يعكس وجه غالية معاناة داخلية هائلة، سواء فى مواجهاتها مع ابنتها، أو فى لقائها مع زوجها، عندما توصيه بانكسار أن يوفق أموره مع الحزب، أو فى غضبها الصاخب والصامت على ابنتها المتمردة التى تكرر تجربة الأم القديمة، أو فى لقائها مع حبيب سابق من أجل ابنتها، الدور صعب ومتعدد المراحل، ومن السهل الانزلاق إلى المبالغة، ولكن غالية تؤدى بمنتهى البساطة الممتنعة، لا يفلت منها التعبير أبدا، ودائما تقدم انفعالا منضبطا ومؤثرا.

بية مظفر أيضا كانت جيدة تشخيصا وغناء، بدت وكأنها لا تمثل، كأنها تتحدث عن نفسها، وعن شخصيتها الحقيقية، تقاوم خوفها وهواجسها، وتمارس حريتها حتى فى علاقتها مع برهان، ولكنها أيضا تنكسر فى أول مواجهة، مشهد استجوابها من أفضل مشاهدها.

ليلى بوزيد، وهى ابنة المخرج التونسى الشهير نورى بوزيد، عبرت بالفيلم إلى بر الأمان، رغم بعض المطبات الدرامية، ربما كنا فى حاجة أكثر لتفصيلات عن علاقة الأم حياة بالمنصف، وربما لا يحتاج الفيلم تعقيد علاقة برهان بفرح انفصالا ثم عودة، فالصراع من أجل الغناء بصوت عال يكفى وزيادة، ولكن صوت الجيل المتمرد بأغنياته وصل عاليا، وكأن فيلمنا يتبنى نداء صلاح جاهين العابر للأجيال:
«الغنا مش ح يموتك إنما/كتم الغنا هوه اللى حيموتك»..
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات