رحيل معلم من الزمن الجميل - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 3:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحيل معلم من الزمن الجميل

نشر فى : الخميس 15 أبريل 2010 - 9:34 ص | آخر تحديث : الخميس 15 أبريل 2010 - 9:34 ص

 لم أكن أدرى حين أخذت أتصفح «الأهرام» كعادتى فى مساء كل يوم أن جولتى هذه سوف تنتهى بتلك السطور الحزينة التى نعت مربيا فاضلا تتلمذت وجيلى وأجيال غيرى على يديه وأيدى من يماثله من المعلمين الأفذاذ الذين صنعوا فى مصر تعليما راقيا لا شك فى مردوده الإيجابى على جهود البناء فى الوطن.

شعرت بأن مرحلة جميلة من العمر تنساب من بين أصابعى، أو لنقل إنها تتلاشى مخلفة وراءها غصة مطبقة على الحلق. عادت بى الذاكرة إلى ما يتجاوز الأربعة عقود عندما كنت طالبا فى مستهل دراستى الثانوية فى «التوفيقية الثانوية».

تلك المدرسة العريقة التى خرجت أجيالا بعد أجيال كان لها شرف خدمة الوطن ورفعة شأنه فى كل المجالات. تذكرت تحديدا ذلك اليوم الذى دخل فيه إلى فصلنا أستاذ اللغة العربية الجديد «عبدالستار السطوحى»، وكنا جميعا كعادتنا نحاول أن نخترقه بأبصارنا وما نملكه من بصيرة فى محاولة لسبر غوره وكشف كنهه وإدخاله فى تصنيفات معتادة كنا نُسكِّن فيها مدرسينا! فهذا فاهم وذلك غير فاهم.. هذا قادر على توصيل ما يريد وذاك عاجز.. هذا مخلص متفان فى عمله وذاك يؤدى وظيفة.. هذا حنون بما لا يخل بصرامة الأب وذاك قاس لا يرحم.. ومنذ الأيام الأولى أدركنا أن الأستاذ عبدالستار السطوحى هو نسيج وحده.

كانت نقطة البداية هى تلك العلاقة الشخصية الدافئة التى حرص على غرسها بينه وبين تلاميذه مع حفاظه على الخيط الرفيع ــ وإن يكن الصارم والمتين ــ بين علاقة الود الدافئة بين الأستاذ وتلاميذه وبين تجاوز هؤلاء لحدودهم معه. هكذا مررنا معه بتجربة فريدة لم نعرفها مع أحد من قبله،فقد كان أقصى ما خبرناه من مدرسينا هو مرافقتهم لنا فى الرحلات المدرسية حيث تختفى أو تكاد الضوابط الصارمة «المؤسسة»، وتنطلق النفوس على سجيتها.

أما مع الأستاذ عبدالستار السطوحى فقد بتنا ننتظر عطلة نهاية الأسبوع بفروغ صبر، بعد أن أصبحنا نخرج بصحبته لنقضى وقتا ممتعا فى مكان نختاره أو يقترحه هو.. فهانحن مرة فى الحديقة اليابانية بحلوان حيث يأتى مصطحبا جهاز تسجيله الضخم بمعايير اليوم ليسمعنا فيه آخر ما شدت به أم كلثوم فى حفل اليوم السابق على لقائنا، وأخرى فى سهرة رمضانية بحى الحسين العريق نصلى فى مسجده الطاهر، ونتجول معا بين أزقته، ونرشف الشاى معا فى قهوة الفيشاوى يغمرنا فرح طفولى بأننا نمارس سلوك الكبار بصحبة مدرسنا. يحدثنا عن مشاهداته فى البلد العربى الذى كان قد أعير إليه فنعرف ما لم نكن نعرفه عن إخوة لنا وراء الحدود، وتتعزز فينا الرابطة العربية التى كانت مصر الثورة ترفع راياتها فى تلك الأيام، وينتقد فى صراحة جسورة نظام حكم عبدالناصر فى وقت كان الوله فيه بالزعيم وإنجازاته قد بلغ ذروته،فنتعلم منه أن التعبير عن الرأى الحر ممكن ومطلوب دائما،

ويحرص فى الإذاعة المدرسية التى كان يشرف عليها على أن تكون حلقة وصل بيننا وبين الأحداث الجارية بعيدا عن الكلمات الجوفاء أو التوجيهات الفظة.. ومن هنا يتعمق ارتباطنا بما يجرى داخل الوطن ومحيطه الخارجى.. يحدثنا عن أدبائه المفضلين ويقرأ لنا من أعمالهم ويفسر ما غمض منها.
هكذا كان نهجه.. يبدو للوهلة الأولى أنه بعيد عن «المقرر» لكنها كانت الوسيلة المثلى للتعليم.

لم نكن ندرك الأمر على هذا النحو من الوضوح فى بدايته، لكننا سرعان ما اكتشفنا أننا تجاوزنا بكثير ودون أن ندرى ما هو موجود فى «الكتب المقررة»، فقد كان الأستاذ عبدالستار السطوحى يبنى داخلنا «ثقافة» بعيدا عن أن يعدنا لأن نكون «قرودا» تتدرب على حركات بعينها كى تجتاز الاختبارات التى تنتظرها بتفوق لافت، وهكذا عندما كان يقف بيننا داخل الفصل لكى يشرح «الدروس المقررة» كنا نكاد لا نجد فيها شيئا جديدا علينا،وبالتأكيد لم يكن أى شىء فيها يستغلق على فهمنا لأنه كون داخل عقولنا «طريقة للتفكير» أكثر مما اهتم بالتلقين والحفظ.

تواصلت علاقتنا بعد أن ولت سنوات «التوفيقية الثانوية» الجميلة، وكنت واحدا من أكثر تلاميذه الذين انتظمت علاقتهم به بعد تشتتهم على الكليات المختلفة. ألقاه أو أزوره بانتظام، ويمتد الحديث بيننا دائما إلى الوطن وشئونه وشجونه خاصة بعد سنوات الهزيمة المرة فى1967، وكان مع ذلك متفائلا يرى فيما يجرى بعد الهزيمة بوادر يقظة وإصلاح.

وعندما حانت سفرته الثانية للإعارة فى إحدى البلدان العربية لم يفكر لحظة فى أن يمد إعارته يوما واحدا زيادة عن المدة المقررة أصلا، على الرغم من كل الإغراءات التى تعرض لها كى يبقى هناك ربما إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، فقد كان ينظر إلى علاقته بالخارج كعلاقة وظيفية ذات هدف محدد لا يجب أن يحرفه عن أداء رسالته فى وطنه مصر، وهو المدرس الوحيد فى حياتى الذى زارنى فى منزلى حاملا معه هدية جميلة من بلد الإعارة مازلت أحتفظ بها حتى الآن.. لم أره سعيدا كيوم عرف أن ابنه الأكبر «أنس» سوف يكون ضمن تلاميذى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأحسب أن السبب واضح.

لا أنسى لقاءنا الأخير حين اتفقنا على أن أزوره فى منزله بمصر الجديدة، وأردت أن أراجع معه خريطة الوصول إلى المنزل خشية أن أكون قد نسيت معالم الطريق أو بعضها، فشرحها لى بدقة متناهية جعلت رحلة الوصول غاية فى اليسر والسهولة، وعندما اقتربت من المنزل لم أصدق عينى،فقد وجدته جالسا أمام المنزل وهو يتدثر بملابس ثقيلة يتقى بها بردا شديدا فى تلك الليلة. انخلع قلبى وهرولت إليه معاتبا فأجابنى ببساطته المعهودة خشيت أن تحتاج إلى مساعدة ولا أكون حاضرا. أمضينا ليلتها وقتا جميلا استعرضنا فيه شريطا طويلا من ذكريات أجمل، ولم أكن أدرى حينذاك أنه اللقاء الأخير.

طافت هذه الذكريات كلها بمخليتى وأنا أتابع الجدل الساخن حول زيارات وزير التربية والتعليم المفاجئة للمدارس والقرارات التى يتخذها فى هذه الزيارات، والخيط الرفيع الذى يفصل بين الأهمية الفائقة لهذه الزيارات الميدانية والخلاف حول أسلوب القيام بها ومضمون ما تنتهى إليه من قرارات.

تذكرت أننا فى حياتنا التعليمية كلها لم نحظ بشرف «زيارة وزير»،بل لقد كان من النادر أن يمر علينا «مفتش»، ومع ذلك فقد كان كل شىء على ما يرام. يأتى المدرسون فى مواعيدهم ويقومون بواجباتهم فى إخلاص وتفان، ويُنَّشِئون جيلا بعد جيل من المتعلمين تعليما راقيا أو على الأقل معقولا. فما الذى حدث يا ترى فى مجتمعاتنا حتى انتقلنا من زمن «عبدالستار السطوحى» الجميل إلى زمن يضطر فيه الوزير رغم أعبائه الجسام إلى أن يفاجئ مدرسيه وينزل العقوبات بهم سعيا إلى استعادة انضباط مفقود.

لا شك أن استخفاف البعض بمسئولياته قد بلغ مبلغه،وهو ما يتطلب بحق الصرامة فى التعامل، ولا شك أيضا أن البعض قد وضع نفسه فى موضع مهين سعيا إلى رزق يأتى ممزوجا بدم الكرامة، ولا أنسى يوما كنت أسير فيه فى شارع به أكثر من مدرسة فسمعت صوتا يكاد أن يصل إلى حد الصراخ ينادى على «الأستاذ محمد».

نظرت فوجدت الصوت لتلميذ لا يتجاوز عمره أربع عشرة سنة، وعلى بعد نحو عشرين مترا منه رجل تبدو عليه علامات الاستكانة يستدير كى يرى مصدر الصوت فيقول التلميذ: لا تتأخر عن موعدنا اليوم كما فعلت فى المرة الماضية فلدى ارتباط آخر! فى الزمن الجميل لم تكن الدروس الخصوصية تمثل مشكلة حيث لم تكن ثمة دروس أصلا، وكان التلاميذ الذين يتلقون دروسا خصوصية يتوارون خجلا من زملائهم من سوء ما يفعلون ودلالته السيئة بالنسبة لمستواهم العلمى، وكان المدرس فى منزلة تقترب من منزلة «الرسل» بحق، وأنتج هذا كله تعليما راقيا أو على الأقل جيدا، وقد شهد العالم المصرى أحمد زويل بأنه تلقى تعليما طيبا فى مؤسسات التعليم المصرية وصولا إلى الحصول على درجة الماجستير من جامعة الإسكندرية ومنها واصل طريقه إلى النجاح الذى يعرفه كل مصرى.

يبدو إذن أن الجدل ينبغى أن يحتدم حول تلك المتغيرات المخيفة التى أفضت إلى الوضع الحالى، ونقلتنا من هذا الزمن الجميل إلى القبح الذى بات يشاطرنا حياتنا، لأنه بدون معرفة هذه المتغيرات وتحليل تأثيرها على التعليم وغيره فى المجتمع المصرى سوف تصبح كل الجهود المخلصة التى تتم انطلاقا من سياسة الثواب والعقاب جهودا غير مجدية على المدى الطويل، طالما أن أى تقدم سوف يحدث فى ظلها سوف يكون بفعل «الخوف من العقوبة»، وليس «الإيمان بالرسالة».

بل إن الأخطر من ذلك أننى أتذكر أن بعضا من بقايا الزمن الجميل كان لايزال له حضوره فى بعض المدارس الحكومية إلى عهد ليس بعيدا، وقد كان نفر ممن درسوا لابنتى وابنى فى مدرسة حكومية تجريبية يحملون عبق ذلك الزمن الجميل، وإن كانوا قلة بكل أسف لا تمثل النمط السائد كما كان عليه الحال فى سنوات الزمن الجميل.

ويعنى هذا أن عوامل التدهور المجتمعى تتفاقم بمعدل سريع، وهكذا فرغت المدارس من طلبتها فى السنوات الأخيرة، وحلت محلها نظم تعليم «موازية» فردية أو جماعية ليتها أبلت بلاء حسنا، فقد قامت على أساس تدريب التلاميذ على إتقان «حركات» الامتحان وليس على تكوين المعرفة داخل عقولهم، وبدلا من المدرسين «أصحاب الرسالة» ظهرت فئة من المدرسين «فارضى الجباية». ليست مسئولية الإصلاح إذن هى مسئولية وزير التربية والتعليم وحده، وإن كان له بالتأكيد دوره الخاص فى هذا الصدد، لكن المشكلة لا تتمثل فى «انضباط المدرسة» فحسب وإنما فى انضباط المجتمع ككل.

لا يختار المرء ساعة رحيله.. لكن الأمر لا يخلو من دلالة فى كثير من الأحيان.. أتراها كانت لحظة تسقط فيها الراية من أيدى «عبدالستار السطوحى» وجيله مؤذنة بأن الانهيار قد وقع أو أنه على أحسن الفروض وشيك؟ أم أنها لحظة إنذار بأن الإصلاح الشامل بات مخرجا وحيدا مما نحن فيه وإلا فعلى عاتقنا جميعا تقع مسئولية ما سوف يحل بنا من كوارث؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية