بعيدًا عن السياسة ليوم واحد - أهداف سويف - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 1:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بعيدًا عن السياسة ليوم واحد

نشر فى : الأربعاء 24 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 24 أبريل 2013 - 8:00 ص

غدا، ٢٥ ابريل، عيد ميلاد أمى، الأستاذة الدكتورة فاطمة موسى، التى رحلت عنا فى أكتوبر ٢٠٠٧.

 

نحن، أولادها وأحفادها، لسنا بحاجة إلى مناسبات أو أيام ذات تواريخ معينة لنتذكرها، فهى دائما معنا بأشكال مختلفة، تحضرنا فى لحظات ومشاعر، كل منا على طريقته، فتجد علاء (عبدالفتاح) يغرد فجأة بأن هناك أعمالا أدبية لا يراها إلا من خلال عينيها، أو تجد منى (سيف) تدون عن قد إيه هى واحشاها أو تتأمل فى علاقتها بها، أو أرى ابنى الأصغر، الذى وجد فى نفسه مؤخرا استمتاعا بالطهو وموهبة فيه، يقول إنه يحزنه أنه لن يطبخ لجدته أبدا لأنه يعلم كم كانت ستفرح به. هذا هو الغالب على ذكر أحفادها لها: أنهم يريدون أن يعرضوا عليها إنجازاتهم؛ يريدونها أن تشارك فيها، أن تفرح معهم وتفخر بهم. يريدون أن يُفرحوها وينالوا إطراءها. أما عنى، فربما التعبير الأصدق هو أن أمورى كلها ــ منذ أن رحلَت ــ لا تصل لمرتبة الحقيقة الكاملة أو الواقع الكامل فى وعيى، لأنى لم أحكها لها. يُسقَط فى يدى، بعد حديث أو حدث: إمكانية الحكى، حكيه لها، لم تعد قائمة، فماذا أنا فاعلة به؟

 

بالذات منذ بداية الثورة وأنا أتوق إلى الحديث معها، إلى سماع انطباعاتها ورأيها. فى أول فبراير ٢٠١١ (اليوم السابق لموقعة الجمل) كتبت: «كل ليلة وأنا أترك الميدان يهيأ لى للحظة أننى فى الطريق إليها؛ أننى سأجدها فى البيت. كثيرون ممن التقيهم فى الميدان يقولون لى: «تصورى لو كانت الدكتورة فاطمة عايشة النهاردة، كانت هتبقى حاسة بإيه؟»» وقع السؤال مختلف اليوم، بالطبع، عنه فى أيام الثورة الأولى ــ حيث كنا سنتشارك فى التعجب والفرحة واليوم سنتشارك فى التعجب والأسى والإصرار ــ لكن الإحساس بالاحتياج لا يختلف: لا زلت أريد أن أضرب جرس الباب فأجدها فى غرفة الجلوس، وحولها جميع الجرائد، والتلفزيون صوته عال على قناة إخبارية. كم كانت ستسعد بتعدد القنوات الإخبارية، كم كانت ستحب ريم ماجد وتحترم يسرى فودة وتتجاوب مع محمود سعد وتضحك مع باسم يوسف. كتبت فى فبراير: «أريد أن أدخل فأحضر صينية أكل من المطبخ، وأخفض صوت التلفزيون، وأجلس إلى جانبها لأحكى لها كل ما جرى. أريدها أن تندهش وتتعجب وتغضب وتضحك. أريدها أن تقاطعنى وتسألنى وتشرح لى ثم تضحك مرة أخرى. أريد أن أحكى لها وأحادثها. أريد أن أرى وجهها».

 

أراه دائما وجها مليئا بالحياة، وجه يمكن استعمال صورته لتمثيل الانفعالات المختلفة: السعادة والسخط والفضول والامتعاض والدهشة. لم تكن أمى بقادرة أبدا على إخفاء أو حتى تغليف مشاعرها؛ اللى فى قلبها على وجهها وعلى لسانها ــ حتى وإن كان فى قلبها لثانية واحدة فقط. وربما لهذا فإن أكثر وجه يذكرنى بها الآن هو وجه أصغر عضو فى أسرتنا: خالد ابن علاء ومنال. هناك شىء فى تلقائيته، فى شفافية تعبيراته لم تفقده هى أبدا أو تكبر عليه.

 

طُلِب منى مؤخرا أن أكتب مقالا حول ترجمتها لمأساة شكسبير، «الملك لير»، فعاد وآلمنى (للمرة الألف) أننى لم أكن موجودة معها ليلة ذهبت الأسرة لمشاهدة المسرحية. يحكى لى إخوتى عن فرحتها حين اعتلت خشبة المسرح القومى ليقدمها يحيى الفخرانى إلى الجمهور: صاحبة النص العربى للمسرحية ــ ذلك النص الذى أتاح للجمهور العربى إدراك عبقرية الكاتب الإنجليزى بقلبه، وفتح له طريق التواصل والتعاطف مع شخصيات المأساة. ترجمت النص عام ١٩٦٩، وأعادت إصداره فى ١٩٩٥، ولم يكتمل عملها فى عينيها إلا لما تجسد على المسرح.

 

فى ليلة من الليالى الثمانية عشر الأولى للثورة انتبهت، وأنا أمر من شارع الجبلاية، فى الطريق من البيت للميدان، انتبهت إلى إعلان كبير قديم ملصق بسور دار الأوبرا، يحمل صورة يحيى الفخرانى، ويعلن عن المسرحية. اسمها ليس مكتوبا على الإعلان، لكنى كنت أراها فيه، فصرت وأنا أمر عليه كل يوم وكأنى أمر عليها.

 

كانت أمى تقول أنها لا تستطيع أن تفكر إلا والقلم فى يدها. وفى السنوات الأخيرة، بعد أن نجحْتُ فى أن أراها كـ«فاطمة موسى» إلى جانب كونها أمى، كنت أحب أن أرقبها وهى تعمل: تجلس إلى ترابيزة موضوعة بنوع من التحدى فى وسط الحجرة (بينما مكتبها فى الركن تغطيه الأوراق والكتب)، ذراعها يستند على كومة من الأوراق والكتب ــ واحدة من الأكوام التى كانت تحوطها دائما، القلم فى يدها فى وضع استعداد، يحوم فوق البلوك نوت (فى الغالب مطبوع باسم مؤتمر من المؤتمرات الكثيرة إلى كانت تواظب على حضورها)، ووجهها يأخذ سمة بحث وترقب، سمة مستبشرة، وهى تنتظر إهلالة تلك الجملة المجسدة للمعنى تماما ــ تماما، تلك الجملة المراوغة التى نبحث عنها كلنا.

التعليقات