أمل اللجوء إلى لون محايد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمل اللجوء إلى لون محايد

نشر فى : الإثنين 31 مايو 2010 - 10:09 ص | آخر تحديث : الإثنين 31 مايو 2010 - 10:09 ص

 كل عام تصل مجموعات كبيرة من اللاجئين الأفارقة إلى مصر، وبعد فترة قد تطول أو تقصر يخاطر عدد من هؤلاء بحياته طلبا للخروج منها، ينجح البعض ويفشل الآخر، ما بين رحلتى الوصول والخروج رحلة ثالثة تمتلئ أولا بالأمل ثم بالإخفاقات واليأس، وأحيانا ما تنتهى برصاصة فى الصدر على الحدود.

يعيش أغلب اللاجئين الأفارقة فى القاهرة الكبرى، يكابدون أوضاعا صعبة فيما يتعلق بتوفير المسكن والطعام والشراب وترهقهم بشدة محاولات إلحاق أطفالهم بالمدارس، ثم رحلات البحث عن العلاج فى أحوال المرض. يصاب معظمهم بعلل وآلام نتيجة للمعاناة المتواصلة سواء فى بلادهم أو فى المكان الذى يفرون إليه، وتواجههم عقبات متتالية منذ الوصول، أبسطها سوء التغذية وازدحام الغرف التى يتجمعون فيها وافتقار أماكن معيشتهم إلى أبسط القواعد الصحية، وهم يشعرون دائما بالعجز عن تحسين أحوالهم، فالعمل الرسمى المنتظم بالنسبة للاجئ لا يعدو كونه أمنية بعيدة المنال، إذ لا تسمح لهم الدولة بطرق أبواب أى وظيفة دون الحصول على تصريح بالعمل، والتصريح يأتى عن طريق مباحث أمن الدولة، وهو طريق له منافذ غالبا ما تكون مغلقة.

يفترش السواد الأعظم منهم الأرصفة فى بعض الأماكن التجارية مثل العتبة، ويذهب آخرون إلى الساحات التى يتجمع فيها عمال التراحيل يعرضون قوة أجسادهم وينتظرون من يطلب شراءها. يشترك ملايين المصريين مع اللاجئين الأفارقة فى هذه الظروف الشاقة، لكن ثمة إضافات تزيد هموم اللاجئ ثقلا وتضع على كتفيه عبئا مضاعفا ومريرا.

حين تبادلت الحديث مع أمينة لم تفاجئنى شكواها من ضيق اليد وإحباطها المستمر وشعورها بالحرمان من أبسط الحقوق والحاجات الإنسانية، لم يفاجئنى سردها لتفاصيل رحلة الهرب القاسية عبر الحدود، ولا حكاياتها القريبة عن إلقاء القبض على الزوج القابع على الرصيف يبيع الأمشاط وأربطة الاحذية وغيرها من البضائع الرخيصة، لم تفاجئنى أيضا الرغبة التى أعلنتها صراحة فى الخروج من مصر إلى أى مكان آخر يمكنها أن تتخفف فيه من بعض أوجاعها، لا هذا ولا ذاك، ما فاجأنى حقا كان طفلها الأكبر واسمحوا لى ألا أذكر اسمه.. قسمات وجهه تطل من بعيد مكفهرة وجامدة، عيناه عابستان، ينظر إلى الخلف وإلى الجانبين ويتكلم محدقا فى الأرض أو فى فضاء الحجرة دون أن تلتقى نظرته بى طيلة نصف ساعة كاملة هى فترة لقائى الأول به.

حكى فى كلمات مقتضبة المشكلة الوحيدة التى تضايقه فى مصر: كلما خرج من باب المنزل أهانه أطفال فى مثل عمره، جيران البيت والشارع، وكلما حاول اللعب خارج حدود منزله قذفوه بالطوب والحجارة وكلما جرب الحديث مع أحدهم سخر منه وسبه، لماذا؟ لأن الطفل ذى الاثنى عشر عاما إفريقى لون جلده أسود، وقسماته غليظة، ينادونه بألقاب يكرهها ويصفونه بالمحروق وبالشيكولاتة، فى المدرسة يحدث المثل، يدق جرس الفسحة فينطلق إلى الساحة ويتعقبه الأولاد ويضربونه ويخطفون منه الطعام، وحين يشكو إلى معلمته، تطلب منه الابتعاد عنهم ولا تحاسبهم أو تعاقبهم. كرة المدرسة والشارع والبلد ولم يعد يرى فائدة تُرجى من الحديث أو الشكوى.

أمينة أيضا لم تسلم من المضايقات لكنها لا تتكلم، فهى لا تريد لنفسها شيئا، فقط الأمان لابنها الأكبر وابنتها الصغيرة التى سوف تذهب بدورها إلى المدرسة فى عام قادم. بعد إلحاح حكت القليل: فى أحد الأيام أطفأ سائق الميكروباص محرك السيارة وأمر أمينة وطفليها بترك مقاعدهم والنزول من السيارة، ولما رفضت رفض هو الآخر أن يتحرك من مكانه، زجرها بتأفف وتساءل عما جاء بها إلى مصر وشاركه بعض الركاب، واضطرت أمينة بعد تعرضها لضغط وحرج كبيرين أن تذعن وتغادر بطفليها لتبحث عن سيارة أخرى لا يستاء سائقها وراكبوها من لون البشرة الأسود ولا يقصرون نظرتهم لها على كونها مجرد عمالة رخيصة تسرق أماكنهم فى الوظائف والأعمال الدنيا. حين أغلق ولد أمينة باب السيارة باستياء أقسم السائق بأنه سوف يضعه تحت عجلاتها.

منذ بضعة سنوات شاركت أمينة وعائلتها فى الاعتصام الجماعى الشهير داخل حديقة مصطفى محمود بالمهندسين، كان اللاجئون يعترضون على تخلى المفوضية العامة عن دورها تجاههم ومماطلتها فى توطينهم فى أى بلد. بعد أيام من المبيت فى العراء تعرضت أمينة وطفلاها وزوجها، مثلما تعرض الجميع، إلى ضرب مروع من قوات الأمن وأصيبوا بإصابات متباينة. ما لم ينمح من ذهن أمينة أبدا لم يكن الجروح الجسدية أوالرضوض والكسور، بل كان ذلك الجمع الغفير من المواطنين أصحاب البشرة الفاتحة، وقد وقف متفرجا، ثم مع بدء الهجوم ودوران المجزرة وقد أخذ يشجع جنود الأمن المركزى على ضرب المعتصمين العزل، ثم وقد أخذ يهتف داعيا لقتلهم بعد أن انكمشوا يحتمون ببعضهم البعض، بدعوى أنهم يلوثون المكان ويشوهون شكل الحديقة.

قُتل يومها عشرات اللاجئين على كلمات النشيد الوطنى لمصر، ووسط تصفيق الجمع الذى بدا كما لو كان يشهد معركة ضارية ضد عدو عتيد. فقدت أسرة أمينة كل متاعها الضئيل بما فيه الملابس والأحذية، وتوجهت إلى منطقة يمكن وصفها بنصف العشوائية، حيث الفقر المدقع والاضطهاد والمضايقات التى لا تنتهى.

ولد أمينة الذى يتحدث بلغة تفوق سنوات عمره ويلوح فى كلماته وعباراته ذكاء كبير، والذى انتزع من بيته وتكبد مشقة الفرار إلى بلد غريب وأصيب فى موقعة مصطفى محمود وشهد موت رفاقه تحت الأقدام وإذلال أمه وأبيه، ولد أمينة الذى يطارده الصبية كل يوم فى الشارع والمدرسة بالحجارة، غير قادر الآن على التركيز فى حصص المدرسة وغير قادر على الاستذكار فى البيت، يحمل غضبا ومرارة تجاه من يدأبون على إهانته، لا يحصل الدروس ولا يرغب فى النجاح كما كان فى وطنه، لا أصدقاء له ولم يعد مهتما باللعب مع أقران فى مثل سنه، صامت لا يشرك أحدا فى مشاكله ويكتفى بالخروج وحده ليلا ويشرد كثيرا، الشىء الوحيد الذى يفكر فيه ويطلبه هو العودة لموطنه الأصلى حيث الجميع فى مثل لونه وشكل ملامحه وكثافة وتجعيد شعر رأسه، الوطن حيث الزملاء والأصحاب، حيث يتعامل بندية وثقة وانطلاق، وحيث لا يمكن لأحد أن يهينه أو يهين والديه بسبب بشرتهم الداكنة وسعيهم وراء العمل حتى وإن كان بأجر غاية فى الضآلة. ليست أمينة فقط وليس ابنها وحده فقد تعرض الأب والعم أيضا إلى الضرب فى الشارع لذات الأسباب، وهناك الكثير من اللاجئين أفرادا وأسرا، يمرون بمواقف مشابهة ويعانون من عدم تقبل المجتمع لهم، وتعامله معهم باستعلاء واحتقار وعنف، يحاول بعضهم التعايش والتحمل ويسعى الآخر نحو الهجرة حتى وإن كانت إلى إسرائيل، تدفعهم الظروف المعقدة نحو الحدود حيث يموتون بالرصاص.

تحت مظلة الفقر الشديد والاستبداد يضيق الأفق، وتتفشى العنصرية وتنمو كثير من المشاعر والأفكار السلبية والانفعالات المبالغ فيها، وتحت ذات المظلة تظهر العدوانية ويعلق الناس مشاكلهم على مشاجب وهمية وأسباب زائفة.

ما زالت أمينة وأسرتها تواصل الحياة وسط الرفض ونظرات الازدراء، طلبت منها أن أنشر بعض أجزاء من الحكاية فوافقت مرحبة، واستأذنت ولدها كذلك فرفع إلىّ عينيه الصافيتين الحزينتين وابتسم.
طبيبة وكاتبة

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات