النجمة البيضاء فى السماء العربية - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 1:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النجمة البيضاء فى السماء العربية

نشر فى : الخميس 10 يونيو 2010 - 9:51 ص | آخر تحديث : الخميس 10 يونيو 2010 - 9:51 ص

 رفرف العلم الأحمر ذو الهلال الأبيض والنجمة البيضاء فى معظم العواصم العربية التى سمح فيها بالمظاهرات المنددة بمذبحة أسطول الحرية، واعتلى شرفات المنازل وزين واجهات البنايات فى بعض من تلك العواصم، وعلق على يسار المنبر الذى اعتلاه إسماعيل هنية يوم الجمعة الماضى فى غزة ليقول خطبته المعتادة، فيما كان علم فلسطين على يسار المنبر،

وكانت هذه المظاهر وغيرها مؤشرات كاشفة لرد الفعل العربى على الدور التركى فى «أسطول الحرية» منذ بدايته وحتى المذبحة وما بعدها، وهو دور غير منبت الصلة بطبيعة الحال عن السياسة التركية الجديدة فى عهد رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو، والتى حققت نجاحات عربية مهمة أبرزها مع سوريا، ناهيك عن دور الوساطة الذى قامت به حينا بين إسرائيل وسوريا، وعن حرصها على بناء توافق مع السياسة الإيرانية تفاديا لأى صدام محتمل قد يوقف اندفاع القطار التركى نحو غايته.

طبيعى إذن أن ينظر إلى المشاهد السابقة كمؤشرات لعرفان عربى غير محدود تجاه هذه الجارة الإقليمية القوية التى جمعنا بها يوما رباط سياسى وحضارى واحد، لكن البعض منا أراد أن «يجيش» المسألة برمتها لصالح مفهوم معين يستحق وقفة للمناقشة لأنه منطقيا غير صحيح، كما أن الاسترسال فيه لا يقل خطورة عن التمادى العربى فى العجز عن مواجهة إسرائيل. تحدث عديد من ممثلى «القوى الإسلامية» عن الأمر فلم يروا فيه رؤية جديدة لدولة ناهضة، وإنما اعتبروه عودة «لدولة الخلافة»، وتحدث إسماعيل هنية تحديدا فى هذا الصدد ــ وإن لم يكن وحده فى ذلك ــ عن الأمر وكأنه صار واقعا ملموسا.

ومن هنا أهمية الوقفة مع النفس حتى لا ندمن الانغماس فى أوهام متنوعة الأشكال، ولا نفيق من الوهم فى كل مرة إلا حين نصطدم بجدار عجزنا، فقد عشنا وهم السلام مع إسرائيل رغم كل ما فعلته بنا، ووهم الدور الأمريكى فى تحقيق السلام والرخاء رغم انحياز الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل وأنانية نهجها فى الإصلاح الاقتصادى، ووهم الرسالة التاريخية لأوباما الملون الذى سينتصر للمستضعفين فى الأرض رغم مؤشرات لم تكن خافية من البداية، وأفقنا فى كل مرة على الواقع الأليم، فالله نسأل أن يجنبنا مزالق العيش فى ظل وهم دولة الخلافة التى ستتولى حمايتنا من كل سوء.

لا شك أن ثمة عجزا فادحا قد أصاب النظام العربى، وهو عجز تكشف جليا عند كل محنة واجهها النظام فى العقدين الأخيرين، فقد عجز عن مواجهة تداعيات الغزو العراقى للكويت فى 1990 بقدراته الذاتية، فانقسم انقساما مروعا، وتحالف قسم منه مع الولايات المتحدة الأمريكية لإخراج القوات العراقية من الكويت، فحررت الكويت ودُمر العراق، وعجز عن حماية العراق من الغزو الأمريكى فى 2003 وإن توحد ضد الغزو باللسان،

لكن بعض دوله كان راضيا عما جرى، ووصل الأمر بالبعض الآخر إلى حد التواطؤ، وعجز عن حماية لبنان ضد العدوان الإسرائيلى فى 2006 وغزة ضد عدوان إسرائيلى آخر فى 2008/ 2009، بل لقد رفع غطاءه عن قوى المقاومة التى نجحت فى مواجهة العدوان فى الحالتين، واتهمها بالمسئولية عما جرى، ناهيك عن العجز فى حل عديد من المشكلات التى تفتك بتماسك وحداته فى الصومال والسودان واليمن وغيرها. ولعل هذا العجز المزمن والمركب يبرر الترحاب الواسع من جماهير العرب ونخبهم بالدور التركى الجديد ــ بغض النظر عن فكرة دولة الخلافة.

فى هذه الظروف نجحت تركيا برؤيتها الجديدة وسياستها النشطة المستندة إلى عوامل غير خافية من القوة الحقيقية أن تتغلغل فى مساحات الفراغ المنتشرة فى النظام العربى عموما، وهو نجاح سبق وأن تحقق جزئيا لإيران، غير أن تركيا تميزت عنها فى عدة أمور، فهى أولا دولة ديمقراطية لا يخشى أن التحالف معها يمكن أن يقود إلى نظام شمولى مغلق قد يستحيل تغييره لاحقا إلا بشق الأنفس،

وهى ثانيا دولة «سنية» لا تثير مخاوف من تصيبهم الحساسية لدى سماع كلمة «شيعة» ــ مع كل الأسف لاستخدام هذه المصطلحات المفرقة ــ وهى ثالثا تبدو أكثر «ملاءمة» لتحقيق أهداف العرب الواقعية، فبينما تتحدث إيران عن الزوال الحتمى لإسرائيل وغير ذلك من المفاهيم التى تطرب لها قوى لها وزنها فى الساحة العربية ــ وهى بالمناسبة مفاهيم تجد سندا قويا لها فى الخبرات المستمدة من التاريخ الاستعمارى ــ فإن تركيا دولة تعترف بإسرائيل، ولها معها شبكة علاقات واسعة ومتنوعة، وتفخر بأنها لم تؤذ يهوديا يوما، وتخاطب الشعب الإسرائيلى طالبة منه أن يكشف عن وجهه الإنسانى فى مواجهة السلوك الهمجى لحكومته، وتتوسط بين سوريا وإسرائيل، وتتخذ منها مواقف بالغة الحدة بعد عدوانها على غزة فى 2008/2009، ومواقف أكثر حدة بما يتناسب وما جرى فى مذبحة أسطول الحرية، وتضع الشروط من أجل السماح لإسرائيل بالعودة إلى حظيرة العلاقات الطبيعية معها من جديد، وتتحدث ــ كما فعل أردوغان مؤخرا فى خطابه أمام البرلمان التركى فى أعقاب المذبحة فى الأول من الشهر الجارى ــ حديث الكرامة والشموخ الذى بات العرب يفتقدونه ويشعرون بحنين طاغ إليه فى تعاملهم مع إسرائيل.

غير أن كل ما سبق لا يعنى أن تركيا قد أصبحت من جديد «دولة الخلافة»، أو أنها فى الطريق إلى أن تكون كذلك. هى دولة مسلمة كبرى لنا معها أواصر تاريخية وحضارية، لكنها لن تعود دولة «للسلاطين العثمانيين»، ولو وضع المرء نفسه فى مكان أردوغان لأصابه رعب حقيقى من هذا النوع من التفكير، فهو يبحث عن دور إقليمى نشيط يعظم فيه مصالح وطنه وأمته، وليس عن محيط هائج من المشكلات لا يصلح إلا للانتحار. هو مستعد بطبيعة الحال من أجل هذا الدور أن ينغمس فى القضايا العربية استجابة لمتطلبات هذا الدور ولكنه بالتأكيد لا يمكن أن يجعل من نفسه مسئولا عن شبكة كاملة من الصراعات والمنافسات الكامنة والظاهرة فى الساحة العربية لا شأن له مباشرة بها، وهى كفيلة بأن تأكل أخضر تركيا ويابسها. ناهيك عن رفض النظم الحاكمة العربية عامة هذا النوع من التفكير.

ثم إن تركيا فى التحليل الأخير دولة ديمقراطية، فماذا لو سقط «السلطان العثمانى» لأى سبب كان فى الانتخابات القادمة وحل محله من يختلف عنه فى سياساته الخارجية النشيطة الفاعلة؟ هل يجلس حينها «عرب الخلافة» فى انتظار عودته إلى الحكم؟ صحيح أننا متأكدون من أن قطاعات واسعة من الرأى العام التركى تساند الحقوق الفلسطينية، لكن هذا وحده لا يكفى لمن اصطفوا تركيا «كدولة خلافة».

من ناحية أخرى فإن تركيا دولة قومية معتزة كل الاعتزاز بقوميتها، ولها مصالح محددة فى هذا السياق، فماذا لو اضطرت إلى عمل «صفقات» سياسية يوما مع إحدى الدول الإقليمية الكبرى أو مع هذا التكتل أو ذاك لتحقيق مصالح وطنية عليا لم تأت على هوانا، وما أكثر الصفقات فى عالم السياسة؟ هل نقوم حينذاك بشجب «الباب العالى» إن فعل هذا أو ندينه بالتواطؤ على مصالحنا؟

كما أن تركيا ما زالت تواجه حتى الآن معضلة المكون الكردى من الشعب التركى، وقد نذكر أن مذبحة أسطول الحرية قد تزامنت مع هجوم آخر فى مدينة إسكندرونة أودى بحياة ستة من الجنود الأتراك، أى أن خسائره لا تقل فداحة عن خسائر الهجوم الإسرائيلى، فماذا لو أن النهج التركى الجديد لحل المسألة الكردية قد أخفق لا قدر الله فى الوصول إلى مراميه وعادت المشكلة الكردية إلى التفاقم خاصة على ضوء ما يجرى فى العراق، واضطرت تركيا إلى الانكفاء على الداخل حينا من الوقت قد يطول لمواجهة الأعباء المترتبة على ذلك، فهل نهرع حينها إلى «الباب العالى» ونطرقه بشدة كى ننبهه إلى مسئوليات دولة الخلافة تجاهنا؟

يقدر المرء كثيرا كل المشاعر العربية الطيبة والمخلصة والحماسية لما فعلته تركيا وتفعله، بل إن كل مخلص لعروبته وإنسانيته لا يمكن إلا أن يكون جزءا من هذه المشاعر، فكل العرفان لدولة تفهم اللغة الدبلوماسية الصحيحة، وتجيد استخدامها، وتعرف أن للدبلوماسية مخالب وأنيابا، وتعرف كيف تحافظ على كرامتها، وكيف لا تجعل العلاقات مع إسرائيل سجنا انفراديا تبدو فيه مقيدة القدمين واليدين حرصا على شىء لا جدوى من ورائه. دولة كهذه لابد وأن تكون موضع كل إعجاب واحترام،

وتبقى مسئوليتنا أن نفهم ما يجرى، ونضعه فى سياقه الصحيح، بحيث نكون قادرين على مد جسور التعاون والصداقة والتحالف معها من أجل مصالحنا المشتركة. أما أن يستعيد البعض منا مفهوم «دولة الخلافة» نحو تكييف جديد لعلاقتنا مع تركيا فهذا أمر آخر لأننى أخشى كثيرا فى سياق العجز العربى الراهن أن يمثل هذا سحابة وهم جديدة تشارك فى قناعتنا بإزاحة مسئوليتنا عن حاضرنا ومستقبلنا، خاصة وأن لنا تقاليدنا الراسخة فى هذا الصدد،

فكلما ألمت بنا كارثة سارع المعتدلون منا والمتشددون على حد سواء إلى المطالبة بوضع المجتمع الدولى والأمم المتحدة والولايات المتحدة وكل من يعنيه الأمر أمام مسئولياته كى يزيحوا الكرب عنا، لكن الكرب لا ينزاح أبدا ولن يفعل طالما أننا ارتضينا فى مباراة الحاضر والمستقبل أن يقتصر دورنا على الجلوس فى مقاعد المتفرجين نشجع اللعبة المتقنة، ونستهجن التصرفات المشينة، ونهتف لتسجيل الأهداف ونرفع نجوم المباراة على أكتافنا، لكننا لا نفكر أبدا فى أن يتغير دورنا يوما إلى النزول إلى أرض الملعب للمشاركة فى إحراز النصر. فهل تكشف لنا النجمة البيضاء التى تلألأت كأبهى ما يكون فى السماء العربية مواطن التخاذل فى سلوكنا؟ أم أن ضوءها المبهر سوف يحجب عنا حقيقة ما يجرى وما يجب أن يكون؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية