عصر ما بعد الإنسان - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عصر ما بعد الإنسان

نشر فى : الجمعة 11 أغسطس 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 11 أغسطس 2017 - 9:45 م
ظهر تعبير أو مصطلح «ما بعد» ليعبر عن تجاوز مرحلة ما فى التاريخ الإنسانى ودخول مرحلة جديدة فى تاريخ تطور الإنسان وتقدمه، وأول مرة استخدم فيها هذا المصطلح كان «ما بعد الاستعمار» والمقصود بهذا المصطلح تقييم مرحلة انتهت بإيجابياتها وسلبياتها والتطلع إلى مرحلة أفضل من السابقة وهكذا انتشر مصطلح ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة.. إلخ لكن أحدث مصطلح اليوم لتعبير «ما بعد» هو «ما بعد الإنسان» والسؤال ماذا نعنى بمصطلح أو تعبير «ما بعد الإنسان» الحديث هنا عن «بنية الحمض النووى» أو ما يسمى اختصارًا «DNA» والحمض النووى تم اكتشافه عام 1953 من عالمين؛ جيمس واطسن والذى كان عمره 25 سنة فى ذلك الوقت وهو متخصص فى علم الوراثة وفرنسيس كريك المتخصص فى الفيزياء، حيث أعلنا عن صياغة لنموذج الحمض النووى الذى ما هو إلا شريط لولبى كدرجات السلم مكون من قواعد كميائية، هذه القواعد تترابط فيما بينها وفق تنظيمات محددة تشكل لنا الموروثات المتحكمة فى الإنسان. هذا الاكتشاف كان مفاجأة رهيبة دفعت البشرية إلى التذكر والتفكر فى ما يسمى علوم الحياة بشكل فاق كل توقعات الإنسان منذ وجوده على الأرض وحتى يومنا هذا، وبالطبع مثل هذه الخطوات تؤثر بقوة فى اتجاهين متضادين اتجاه التفاؤل والإعجاب والانبهار وفى ذات الوقت الاتجاه المعاكس اتجاه الخوف والتوجس فالاتجاه الأول أعطى دفعة غير مسبوقة فى ميادين الوراثة والإنجاب وزرع الأعضاء وإطالة أمد الحياة ومعالجة الأمراض والأوبئة والتخفيف من آلام الناس، وإضافة جرعة ضخمة للإنسان من السعادة والإحساس بالرضا والقوة والسيطرة على الحياة التى كانت تقهره بقوة منذ وجوده على الأرض بالألم والعذاب والموت، هذه الجرعة أعطت البشر ثقة أكبر وأكثر فى العلم عن ذى قبل، فعلى طول الزمان كان الهاجس الذى يراود الإنسان دائما: هل سيأتى اليوم الذى أحيا فيه دون معاناة أو مرض؟ إنه الحلم الإنسانى القديم المتجدد، هل يمكن أن أعيش أطول بصحة جيدة واستمتع بالحياة؟ هل أضمن مرحلة أطول من الشباب بأقل الخسائر؟ 
***
هذه التغيرات الأصولية فى علوم الحياة جعلت البشر يواجهون وضعًا جديدًا غريبًا لم يتعودوا عليه على مدى السنين البعض يقدره بآلاف السنين والبعض الآخر يقدره بمئات الآلاف والبعض الثالث يقدره بملايين أو مليارات، والجديد هنا والذى لم يحلم به الإنسان أنه وجد نفسه فى مواجهة إشكاليات جديدة مثل: إلى أى مدى يسمح بالتجريب على كيان الإنسان؟ وما هى حدود ذلك؟ وهى قضية أخلاقية شديدة التعقيد ثم قضية الاتجار بالأعضاء البشرية وقضية الموت الرحيم أى إيقاف آلام الشخص المقبل على الموت كذلك مسألة تأجير الأرحام والأرحام التى تستقبل البويضة المخصبة بها، والسؤال عن البويضة المصابة بمرض وراثى هل يجوز إجهاضها؟! وهل انتقاء أجنة خالية من كل العيوب الوراثية أمر مشروع؟ فمن خلال فحص جينات الوالدين يمكن معرفة تطور مرض وراثى ما وإمكانات ودرجة انتقاله إلى الطفل القادم، وكذلك فحص المقدمين على الزواج حتى لا يأتى إلى العالم طفل غير سليم وفى حالة كهذه يمكن للوالدين الاختيار: إما الطفل ومعه المخاطرة أو لا طفل، مرات يختار الزوجان أن يكون الطفل أنثى لا ذكر والعكس وهناك إمكانية زرع جينات من متبرعين لأجل طفل أكثر ذكاء أو جمالا وذلك بهدف تحسين السلالة البشرية، وقد حدث هذا بالفعل فى النبات والحيوان.
وهناك رأى مطروح يمكن تحقيقه هو تجميد جينات العباقرة واستخدامها بعد ذلك لإخراج جيل من العباقرة. والسؤال الأهم: كيف ستؤثر هذه الثورة الجينية على منظومة حقوق الإنسان؟ وكذلك على مبادئ الأديان؟ هذا السؤال البسيط المعقد ازداد حدة وتعقيدًا بعد ثورة ما يسمى الآن «تحديد النسل» والتى دفعت إلى القول بأن البشرية ستتجاوز الإنسان إلى مرحلة «ما بعد الإنسان» هذا الإعلان جاء فى كتاب لوك فيرى Luc Ferry الفيلسوف الفرنسى الشهير بعنوان «ثورة ما بعد الإنسان» عام 2016 ويمكن ترجمته «ثورة ما بعد الإنسانية» والفكرة الجوهرية أو المركزية فى الكتاب، أن زمن ما بعد الإنسان ليست خيالًا علميًا بل هى سائرة نحو التحقيق يوما بعد الآخر ففى إبريل 2015 قرر فريق من علماء الوراثة الصينيين إنجاز تجربة حول 83 أجنة إنسانية بهدف تعديل وتحسين جينوم الخلايا الخاصة بها وقد ضربت الصين سياجا من السرية على هذا الأمر.
***
ما يهمنا هنا هو أن الهدف من وراء كل ذلك هو أنه أصبح من المؤكد أن آليات تقطيع وتطعيم وإعادة إلصاق مقاطع من الشفرة الوراثية DNA للإنسان قد تطورت وتقدمت إلى الأمام خطوات مذهلة، فهى لم تعد مجرد احتمال أو إمكان أو حلم يحلم به الإنسان، بل إن تحقيق مثل هذه الأمور أصبح وشيكًا بشكل عام وشعبى، فالإنسانية اليوم تملك القدرة على إحداث تحويل جذرى فى الإرث الجينى للفرد وهو ما حدث من زمان طويل على النباتات مثل بذور الذرة والأرز والقمح فى ظل تكنولوجيا الأعضاء المعدلة وراثيًا، وعندما تم ذلك قام علماء البيئة برفض ما حدث غاضبين لأن هذا يشوه الطبيعة وينحو بها إلى منحى صناعى لا يمكن ضبطه ولا نعلم إلى أين سيصل بالبشرية والإنسان؟ ولا نعلم ما هى مخاطره المستقبلية؟ لكن الأمر الأدعى للاهتمام والحذر الشديد عما وقع فى الصين وربما فى بلاد أخرى لم تعلن عن نفسها إن القضية ليست قضية نبات أو حيوان يتم تغيير مكوناته الوراثية وأعضائه، بل نحن نتحدث عن الإنسان، فترى هل هناك خط يحدد النهاية فى هذه المسيرة؟ مثلا هل يمكن أن نرفع ميزة إنسانية مثل الذكاء أو القامة أو الجمال أو القوة لجميع البشر أو للجيل القادم؟! هل سنطلب أطفالا بمواصفات معينة بحسب أهوائنا؟ صحيح لم يصل العلم بعد إلى هذه التقنية ربما لأسباب أخلاقية أو تقنية لكن من الناحية النظرية يمكن أن تتحقق فى يوم من الأيام، هنالك مجموعات من الباحثين منتشرين فى كل العالم يعملون بمنتهى القوة والجادية ليصلوا إلى إنتاج نسل على المقاس والرغبة المطلوبة ويساعدهم فى ذلك التقدم المذهل والسريع فى العلوم والتقنية، والخطورة فى ذلك الأمر أن هذا العمل الضخم يتم إنجازه فى صمت ودون جلبة أو إعلان وحتى دون إثارة أى انتباه للسياسيين وللمؤسسات الدينية، لكن لا يخلو الأمر من بعض إشارات هنا وهناك.
***
إن الإنسانية جمعاء بصدد تحول فى أساسات العلم والدخول إلى آفاق لم يعتادها من قبل، فمنذ نشأة العلوم الطبية فى التاريخ الإنسانى وهو يقوم على «علاج وإصلاح» الأعضاء المريضة والمعطوبة لكن اليوم هو يسعى إلى تجويد عمل الأعضاء لأقصى حد ممكن، إن الإنسانية أمام مرحلة عالمية جديدة مبهرة ومخيفة فى ذات الوقت. وهنا تثار أسئلة فى منتهى الخطورة: 
ما هو موقع الإنسان فى الطبيعة، وما علاقته بالكون؟ ما هى سلطة الإنسان على الإنسانية سواء على المستوى العلمى أو الأخلاقى أو الروحى أو السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى يقول الفيلسوف السويدى نيك بستروم Nick Bostrom «سيأتى اليوم الذى تصبح فيه إمكانية الرفع من قدراتنا الذهنية والجسدية والوجدانية والروحية بشكل يتجاوز كثيرًا ما يبدو متاحًا اليوم، وآنذاك سنخرج من الطفولة الإنسانية (زواج ـ ميلادـ مراحل نموـ ضعف ـ موت) لندخل إلى ميلاد عصر ما بعد الإنسان، هذا العصر أصبح قاب قوسين أو أدنى فهل نحن كبشر معاصرين أعددنا أنفسنا لمواجهة إنسان العصر القادم؟

 

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات