سياسة حياد إيجابى ناشط.. ضرورة للبنان - ناصيف حتى - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 5:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سياسة حياد إيجابى ناشط.. ضرورة للبنان

نشر فى : الإثنين 16 نوفمبر 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 16 نوفمبر 2020 - 9:55 م

من السمات المستقرة فى السياسة اللبنانية أن تبقى أنظار مختلف القوى والمكونات السياسية مشدودة ولو بدرجات مختلفة إلى الخارج الإقليمى بشكل خاص والمتأثر بالطبع بدرجات مختلفة بالخارج الدولى وتحديدا دور القوى الدولية الكبرى فى الإقليم، وذلك لمراقبة اتجاه الرياح السياسية ومدى ملاءمتها لهذا الطرف أو ذاك فى لبنان: فهل هى نحو مزيد من الصدام والمواجهة بجميع أشكالها التى عادةً ما يكون لبنان رهينة لها أو إحدى ضحاياها والحامل للكثير من تكاليفها التى عادة ما تفوق طاقته، أم أن الرياح تتجه نحو التهدئة والصفقات والتفاهمات الموقّتة أو الطويلة الأجل، الشاملة أو المحدودة، والتى تساهم باستقرار مرحلى للبنان ولو استفاد طرف لبنانى أكثر من طرف آخر فى بعض الحالات. تاريخ الحروب والصراعات اللبنانية دلّت على أن صاعق التفجير الأساسى عادةً ما يكون العنصر الخارجى بسبب الاصطفافات اللبنانية السياسية أو العقائدية أو الهوياتية مع هذا القطب الخارجى أو ذاك. ساهمت فى ذلك دائما الجغرافيا السياسية للبنان وأهمية أو جاذبية ذلك الموقع «فى لعبة الأمم» الإقليمية والدولية. وسهّل ذلك هشاشة الاجتماع اللبنانى بانقساماته العامودية التى شجّعت أو دفعت نحو تلك الاصطفافات. فلبنان بتركيبته يجذب ويسهّل تلك الاصطفافات مع الخارج الإقليمى. البعض كان يرى فى لبنان «هونغ كونغ« أو «سويسرا الشرق الأوسط« والبعض الآخر كان لبنان له بمثابة «هانوى» لجميع أنواع الثورات أيا كانت عناوينها. تتغيّر الأطراف والعناوين فى الخارج والداخل وتبقى اللعبة اللبنانية هى ذاتها.
لبنان اليوم إذا استمرت الأمور على ما هى عليه من جمود وتأزم سياسى قاتم على صعيد إنتاج حكومة تحمل رؤية شمولية والتزام فعلى بالإصلاح الهيكلى الشامل، على طريق الانهيار أو الانفجار الاجتماعى مع ما يحمله ذلك من تداعيات جسيمة تطال الجميع.
يستدعى ذلك كما يدعو البعض إلى تحييد عملية الإنقاذ الاقتصادى قدر الإمكان من السياسات أو الخيارات الكبرى أو لعبة الاصطفاف مع الخارج وهذا رهان ليس بالسهل: فإنقاذ المركب اللبنانى من الغرق، كما أشرنا فى مقالة سابقة، أمر أكثر من ضرورى للجميع والوقت لا يعمل لصالح الإنقاذ، بل تزداد التكلفة والصعوبات كل يوم يمضى. لكن حماية ومواكبة وتحصين عملية الإنقاذ الوطنى التى لم تنطلق بعد تبقى بانتظار بلورة «ثلاثية» خطة العمل وخريطة الطريق والجدول الزمنى التى يفترض أن تحملها وتلتزم بها كليا الحكومة المنتظر تشكيلها، تبقى رهينة لدرجة كبيرة للعبة الشطرنج الإقليمية ورهان الأطراف اللبنانية عليها من مواقع مختلفة. يستدعى ذلك كله أن نفكّر جميعا فى كيفية صياغة سياسة لبنانية خارجية تقوم على ما يعرف بالحياد الإيجابى الناشط: لبنان بالطبع لا يمكن أن يكون دولة محايدة بالمفهوم القانونى الدولى حسب نموذج الحياد السويسرى مثلا. لبنان دولة عربية من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية وعليه بالطبع الالتزام بالثوابت العربية وبالأخص فى إطار النزاع العربى الإسرائيلى ولو ضعفت أو اهتزت هذه الثوابت فى لحظة معينة. فلا يمكن للبنان الخروج عنها ولكن لا يعنى ذلك بالطبع أن يتحمّل لبنان وحيدا كما جرت العادة وزر أن يكون «هانوى الثورة« حتى لو تغيرت الشعارات بين مرحلة وأخرى.
يستدعى ذلك كله التوجه نحو بلورة أسس وقواعد لسياسة لبنانية تقوم بالفعل وليس على مستوى الخطاب الرسمى، على مفهوم الحياد الإيجابى الناشط. فلا يجوز أن يبقى لبنان ورقة أو حجر شطرنج فى صراعات إقليمية أيا كانت العناوين التى تحملها تلك الصراعات: من هذه الأسس والقواعد التى يفترض تكريسها، ورغم صعوبة ذلك، العمل على تعزيز مفهوم عدم التدخل فى شئون الآخر وعدم التحدث «فوق رأس» سلطات دول أخرى باسم مواقف سياسية أيديولوجية أو غيرها وكذلك الاحترام الفعلى وتعزيز القواعد السياسية لتسوية الخلافات بين الدول والعمل بموجبها. المطلوب أن نبلور هذه المفاهيم لنؤسس لسياسة من هذا النوع تلتزم بها جميع المكونات السياسية الوطنية وهى فى نهاية الأمر لمصلحة الجميع رغم استفادة هذا الطرف أو ذاك من غيابها فى لحظة معينة.
ولأن لبنان هو الدولة الأكثر تأثرا بالتطورات والتوترات الإقليمية فله مصلحة أكيدة فى أن يساهم مباشرة أو مع آخرين فى المنطقة، وأحيانا بدور استباقى إذا أمكن، بلعب دور الإطفائى فى المنطقة. وقد يرى البعض أن ذلك بمثابة أمر مثالى وهو فى حقيقة الأمر ليس بالشىء السهل. ولكن من منظور جد واقعى يبقى هذا الدور أكثر من ضرورى إذا أردنا فعلا إنقاذ لبنان من أن يبقى أسيرا دائما للصراعات والمواجهات بجميع أشكالها فى المنطقة. فعدم بلورة هذا الدور لن يسمح بالفعل بإعادة بناء الوطن والتغلّب على التحدّيات التى نواجهها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهى بالطبع تحديات مترابطة ومتداخلة ومتكاملة.
إن إطلاق عملية الإصلاح الاقتصادى الشامل اليوم أمر أكثر من ضرورى ولكنه يبقى غير كاف إذا لم يتم تحصينه من خلال مواكبته بالعمل على بلورة سياسة حياد إيجابى ناشط حتى لا يبقى لبنان أسيرا دائما لصراعات نشارك فيها جميعا بأشكال مختلفة وندفع ثمنها فى الاجتماع والاقتصاد والأمن والسياسة.

ناصيف حتى وزير خارجية لبنان الأسبق
التعليقات