صَدمَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 4:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صَدمَة

نشر فى : الجمعة 18 نوفمبر 2022 - 6:45 م | آخر تحديث : الجمعة 18 نوفمبر 2022 - 6:45 م
في زيارةٍ عابرةٍ لمنطقةِ ألعابٍ قديمةٍ شبه مَهجورة، أبصرت هيكلَ عربةٍ حمراء صغيرة، تقبع على إطارٍ بيضاويّ مِن المطاط، ولها مَقود أسود غطَّته الأتربة. كانت العربةُ جزءًا من ساحةٍ واسعةٍ ماجت ذات يوم بضحكاتِ الصغارِ وصيحاتهم إزاءَ كل صَدمةٍ يتلقونها بحماسةٍ، وكلِّ ارتطامٍ يرتجُّ صاحبُه وصاحبتُه داعين للمزيد.
• • •
لا تخلو دار ملاهٍ من لُعبة العربات المُتصادِمة، ولا ينفكُّ الصغار يتلهفون على قيادتِها ويتبعهم إليها الكبار، باحثين عن مُتعٍ قديمةٍ لم تزل جاذبةً مُشوِّقة، تستدعي إلى القلبِ شغفَه وإلى الروحِ صباها. تصطدم العربةُ بالأخرى لا عفوًا بل قصدًا ونيَّة؛ فتُطلِق الصدماتُ المُتواليةُ العنانَ لمكنونِ عنفٍ لا يتأتى له الخروجُ في مواقف عادية؛ إنما يجد مُتنفسًا تلقائيًا في هاتيك لعبة مرحة.
• • •
الصدمةُ اسمُ المرةِ الواحدةِ من الفعل صَدَمَ بمعنى دفع، وإذا قيل صدمةٌ قد أصابت فلانًا فإشارة إلى نازلةٍ أو فاجعةٍ حلَّت به. الفاعلُ صادمٌ والمفعول به مَصدومٌ، أما صدَّام فصيغة مُبالغةٍ وكذلك اسم الرئيس العراقيّ الراحلِ الذي كان له منه نصيبٌ واسع، أيَّده من رأوا في حُكمِه صونًا لوحدةِ العراق وحفظًا لشعبه وإن بإراقةِ الدمِّ على ضفافِ النهرين، وكرِهه حتى النخاع مَن تعرَّضوا لصدماتِه المُروِّعة ومَن دهستهم سجونُه ومُعتقلاته.
• • •
إذ تظهر نتائجُ الثانوية العامة كل عام، تنتابُ الراسبين حالاتُ انهيارٍ مُتنوِّعة، ويبتئس مَن لم ينلْ الدرجاتِ التي رجاها، بل وثمَّة مَن يُقدِم على الانتحار. تتحوَّل بعضُ البيوت إلى مآتم وكأن الحياةَ توقَّفت، وكأن صدمةً عنيفةً أصابت الجميعَ، رغم أن الواقعَ يُثبِت يومًا بعد يوم أن الدِراسةَ والمجاميعَ والنِسبَ المَرمُوقة، ليست بالضرورةِ عنوانًا للنجاح المُستقبليّ، وليست في أفضلِ الأحوال سوى دليل على جهدٍ شاق في التنقُّل بين مَراكزِ الدروسِ الخاصةِ، وعلى مَصروفاتٍ هائلةٍ لا تتناسب والحاصل النهائيّ بأية مَقاييس مُعتدلة عقلانية.
• • •
الصدماتُ النفسيةُ أشقّ على المَرءِ ولا جِدال من أيّ صدمةٍ جسدية، فصدوع النَّفسِ أعمق مِن كُسورِ العِظامِ وأنكى مِن جُروحِ البدن، ورأبُ الروحِ التي طالتها الشروخُ وأعجزتها؛ أصعب ولا شكّ مِن مُداواةِ ما اقتصر ضررُه على الماديِّ الملموس.
• • •
صدمةٌ حضاريةٌ تُرجرِجُ أشخاصًا كثيرين يتركون بيئاتِهم التي اعتادوا عليها إلى أخرى جديدة. البعضُ يتعافى ويتأقلمُ، وبعضٌ آخر ينغلقُ على نفسه ويُكوِّن مع مَن يُشبهونه شرنقةً مُنعزِلةً، وقسمٌ ثالثٌ يحاول فرضَ ثقافتِه وطقوسِ بيئتِه الأولى على المُجتمع الذي طَرقه، وأخيرًا هناك مَن يفشل في مُواصلةِ تجربته؛ فيعود من حيث جاء، قانعًا بما لديه، عازفًا عن اكتساب خبرةٍ مختلفة. الدوافع متباينة والعوامل الحاكمة لمسار هذا أو ذاك تتعلق بالشخصية والعادات، ولا يمكن إغفال ما للمكانِ الحاضنِ من دورٍ مؤثر.
• • •
قد تتسبَّب الصدمةُ الكهربائيةُ في أذى حقيقيّ لمن يتلقاها، إذ تنقبضُ عضلاتُ الجِّسمِ ويختلُّ عملُ أعضائه، وربما كان التيارُ مِن الشِّدةِ بما يقتل. الكهرباءُ وسيلةُ تعذيبٍ مَعروفة، تُتَّبع في أماكنِ الاحتجازِ المُختلفة، قد تأتي مفعولَها فيعترفُ السجينُ بما فعلَ أو لم يفعل، وقد يتمادى الجلادُ فيُزهِق روحَ الضحية. على الجانب المُقابلِ قد تحملُ الصَّدماتُ المَحسوبةُ شفاءً، وربما إنقاذًا لحيواتِ أشخاصٍ كثيرين؛ إن توقَّف القلبُ كانت الصدماتُ الكهربية إجراءً فوريًا حاسمًا، وإن اعتلَّ المُخُّ وارتبكت إشاراتُه كان تنظيمُ الإيقاع وإعادته لطبيعته مُمكنًا بالطريقة نفسها وإن بشروطٍ خاصة.
• • •
تلقينا على مَرِّ أعوامٍ فائتة صدماتٍ مُتتابعة لا حَصر لها، صدمةٌ لا يُفيقُ المَرءُ منها حتى تضربه أخرى، إلى أن تكوَّنت لدى أغلبنا مناعةٌ ضدَّ الصدمات. نستقبل النبأ المُؤسيَ فنبتسم ونهزُّ رؤوسَنا، ثم تصفعنا مُصيبةٌ فنُشيح عنها بوجوهِنا ونمتنع عن التعليقِ، وتكاد الخطوبُ تسقطنا إلى قاع هوةٍ سحيقةٍ؛ لكننا نُغمِض أعينَنا ونستمسكُ بالأماني السعيدة. المُرونة مَيزةٌ حميدةٌ فيما البلادةُ طبعٌ ذميم.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات