استدعت تطورات الوضع الاقتصادى فى لبنان، واتساع رقعة الحرب فى المنطقة عقب هجمات 7 أكتوبر العام الماضى، لتصل مؤخرًا إلى حد استهداف إسرائيل لقادة حزب الله اللبنانى وتصفيتها للسيد حسن نصر الله، زعيم الحزب، البحث فى الطبيعة الاقتصادية لحزب الله، وفرص صموده مستقبلًا أمام الصدمات، وتداعيات ذلك على الاقتصاد اللبنانى المأزوم.
لقد نجح حزب الله (المؤسس فى مطلع ثمانينات القرن الماضى) فى بناء إمبراطورية مالية تعتمد على ركائز مختلفة، تناولها تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية عن الإرهاب لعام 2021، حيث ورد فيه ما مفاده: «تواصل إيران تزويد حزب الله بمعظم تمويله وتدريبه وأسلحته ومتفجراته، فضلًا عن المساعدات السياسية والدبلوماسية والمالية والتنظيمية». ويمثل الدعم المالى السنوى الذى تقدمه إيران لحزب الله (والذى يُقدر بمئات الملايين من الدولارات سنويًا) الغالبية العظمى من الميزانية السنوية للحزب. كما ورد بالتقرير أن حزب الله يتلقى أيضًا تمويلًا فى شكل تبرعات خاصة من بعض مجتمعات الشتات الشيعية اللبنانية فى جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك تحويلات الأرباح من الأعمال القانونية وغير القانونية. وتشمل هذه تهريب السلع المحظورة، وتزوير جوازات السفر، والاتجار بالممنوعات، وغسيل الأموال، وبطاقات الائتمان، والهجرة، والاحتيال المصرفى.
ووفقًا لكتاب «الاقتصاد السياسى لحزب الله»، الصادر عام 2016 للكاتب جوزيف ضاهر، فقد أدى التدفق الكبير للأموال إلى حزب الله بعد حرب إسرائيل ضد لبنان فى عام 2006 إلى تعزيز مكانته كفاعل اقتصادى رئيس. ومن المعروف أن حزب الله قام بشراء مساحات واسعة من الأراضى فى جنوب لبنان وبيروت، ما جعله يرتبط بشكل متزايد بكبار ملاك الأراضى والبرجوازية الشيعية المتنامية بسرعة، والتى تتركز بشكل رئيس فى قطاعى البناء والتجارة. ومع مرور الوقت، كانت لهذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تأثيرات كبيرة على الحزب وسياساته.
فقد شهد حزب الله تزايد أهمية الكوادر الجديدة من الطبقة المتوسطة العليا العاملة فى المهن الحرة، ما أدى إلى إضعاف العناصر الراديكالية والبرجوازية الصغيرة مثل رجال الدين. وفى الوقت نفسه، تم إنشاء شريحة جديدة من البرجوازية المرتبطة بالحزب من خلال رأس المال والاستثمارات الإيرانية، بينما أصبح الجزء الآخر من البرجوازية الشيعية، سواء فى لبنان أو فى الشتات، متشابكًا بشكل متزايد مع حزب الله.
• • •
إن القاعدة الشعبية لحزب الله والتى ضمّت شريحة شيعية متنامية من البرجوازية والطبقة المتوسطة، خاصة فى بيروت، لم تكن تتوق بالضرورة إلى العيش فى جمهورية إسلامية على غرار النموذج الإيرانى، كما كان هدف الحزب فى البداية، وكانت تلك القاعدة الشعبية راضية بالعودة إلى التوافق وتحسين التمثيل السياسى. وعكست هذه التطورات القوة السياسية والاقتصادية الجديدة للسكان الشيعة فى البلاد، والتى تحققت بعد اتفاق الطائف. ومن السمات المهمة الأخرى فى هذا الاندماج فى النظام السياسى انسحاب الجيش السورى من لبنان، الأمر الذى أجبر الحزب على المشاركة فى جميع الحكومات اللبنانية منذ تلك النقطة فصاعدًا. وفى ضوء هذه التطورات، لا يشكل حزب الله تحديًا للنظام الطائفى اللبنانى، بل على العكس من ذلك، فهو ينظر إلى هذا النظام كوسيلة لخدمة مصالحه الخاصة. وقد سعى حزب الله إلى التعاون مع النخب اللبنانية الأخرى فى معارضة القوى المناهضة للطائفية، على الرغم من بعض الاختلافات السياسية، خاصة خلال فترات التعبئة الاجتماعية المتزايدة.
ومع هذا الثقل الاقتصادى المتزايد لحزب الله واندماجه فى النظام السياسى، ارتبط اسم الحزب بالفساد (وفقًا لضاهر). فقد جعلت القوة الاقتصادية والسياسية التى يتمتع بها حزب الله فى لبنان منافسًا مهمًا لشريحة البرجوازية اللبنانية التى التفت حول الحريرى وتحالف 14 آذار، خاصة بعد انسحاب سوريا من البلاد فى عام 2005. وعلى الرغم من التنافس بينهما، تعاونت الكتلتان فى عدة أزمات، كما يتضح من مواقفهما المتشابهة تجاه الحركة العمالية والحركات الاجتماعية الأخرى، وتوجههما نحو الإصلاح النيوليبرالى فى لبنان، وتعاونهما فى الحكومة بعد خروج الجيش السورى من لبنان فى عام 2005.
• • •
لقد خلفت حرب 2006 دمارًا هائلًا فى لبنان، إذ نزح ما يقرب من مليون مواطن، وقدّرت الحكومة الأضرار الناجمة عن الحرب بنحو 2,8 مليار دولار. ولأن حزب الله صار جزءًا من معادلة الحكم فى لبنان، فإن الشعب اللبنانى يحمّله جانبًا من المسئولية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية الراهنة، والتى تتمثّل فى ارتفاع معدلات البطالة والديون والفقر بشكل كبير فى السنوات الأخيرة، إذ ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر فى لبنان من 25٪ فى عام 2019 إلى أكثر من 80٪ فى عام 2022 وفقًا للأمم المتحدة.
كما أشار تقرير لصندوق النقد الدولى إلى أن «الأزمة السياسية المستمرة فى لبنان ومقاومة المصالح الخاصة للتغيير، تعيق قدرة البلاد على إحراز تقدّم فى الإصلاحات الاقتصادية التى تشتد الحاجة إليها». ويواصل التقرير فى تقييم له للوضع الاقتصادى فى لبنان: «إن القطاع العام فاشل، وتوفير الخدمات العامة يكاد يكون منعدمًا، والقطاع المصرفى قد انهار». وقد يكون الأمر أسوأ إذا انسحبت الشركات الدولية التى تستثمر فى قطاع الطاقة فى لبنان (وهو عنصر حاسم فى أى انتعاش اقتصادى لبنانى) على خلفية مزيد من التصعيد العسكرى بين إسرائيل وحزب الله.
• • •
يعكس السجل الضعيف لحزب الله تجاه التعبئة حول القضايا الاجتماعية والعمالية، المصالح الطبقية المتغيرة للحزب، ومعارضته لتمكين الطبقات الشعبية بشكل أكبر. إن إمكانية التعبئة العابرة للطوائف، وتطور الحركات الطبقية تشكل تهديدًا محتملًا لكل العناصر الطائفية والبرجوازية فى لبنان، والتى أصبح حزب الله جزءًا منها. وهذا يفسر لماذا لم يحشد حزب الله جمهوره أبدًا على أساس المطالب الاجتماعية والاقتصادية من منظور عابر للطوائف، حتى عندما زعم دعمه للاتحاد العام للعمال والمطالب الاجتماعية. إن حزب الله، على الرغم من الانتقادات الخطابية والشعبوية لما أسماه «الرأسمالية المتوحشة»، لم يطور أى بديل لتلك الرأسمالية، بل على العكس من ذلك، فهو يواصل دعم الرأسمالية والأسواق الحرة والسياسات النيوليبرالية.
تشير اللحظات الحاسمة فى تاريخ لبنان، لا سيما النضالات العمالية فى فترة الحرب الأهلية، والتجارب الأحدث مثل تشكيل اتحاد النقابات العمالية، والتعبئة الشعبية فى عام 2015 حول «حملة ريحتكم كريهة»، والانتخابات البلدية فى عام 2016 حين تحدت الحركة المستقلة وغير الطائفية كلًا من قوى 8 و14 آذار، وحصلت على حوالى 40٪ من الأصوات فى انتخابات بلدية بيروت - إلى احتمال تراجع النهج الطائفى فى البلاد. وفى منطقة تشهد انتفاضات شعبية وتغيرات سياسية مكثفة وسريعة، فإن التناقض بين دعم حزب الله المعلن للمظلومين من جهة، وتوجهه نحو الليبرالية الجديدة اللبنانية وطبقة النخبة فى البلاد من جهة أخرى، من المرجح أن يثبت أنه يشكل مشكلة متزايدة بالنسبة لقيادة الحركة الإسلامية اللبنانية.
كذلك تشير التطورات الأخيرة للاعتداءات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية فى لبنان، وما سبقها من استهداف لقيادات حماس وحزب الله وأجهزة النداء واللاسلكى فى حوزة تلك القيادات، مع تهديد القيادات الإيرانية بشكل مباشر، إلى تحدٍ أمنى واقتصادى جديد، يجد فيه حزب الله نفسه مراقبًا ومستهدفًا على مدار الساعة، بما يعنى أن مصالحه الاقتصادية يمكن أن تكون مستهدفة بسهولة، مع الوضع فى الاعتبار أن المموّل الأكبر ذاته قد لا يتمكن من مواصلة دعمه للحزب كما كان فى السابق، لأسباب مماثلة، فضلًا عن أسباب أخرى تتعلّق باحتمال عودة التشديد فى العقوبات النفطية على إيران، والتى خفّت حدتها كثيرًا تحت إدارة الرئيس الأمريكى «جو بايدن» المهددة بالتغيير بشكل كامل خلال أسابيع قليلة من اليوم.