لا توجد طرق سالكة للمصالحة الفلسطينية.
المصالحة تضغط على الأعصاب والمشاعر بحثا عن نقطة انطلاق جديدة توحد القرار السياسى الفلسطينى، الذى تدهور بفداحة منذ الانقسام المروع عام (2007) بين الضفة الغربية وغزة، «فتح» و«حماس».
على مدى أربعة عشر عاما تناثرت فى الفضاء العام الفلسطينى نداءات المصالحة، جرت مبادرات واجتماعات دون أن تفضى إلى شىء ملموس على الأرض يخفض من الأثر السلبى اللا محدود للانقسام على القضية الفلسطينية ومستقبلها.
عند كل منعطف تطرح قضية الوحدة الفلسطينية نفسها على جداول الأعمال قبل أن تطوى ملفاتها فى انتظار منعطف آخر يعيد طرحها من جديد.
مرة بعد أخرى تتكرر الأفكار نفسها، العبارات بنفس صياغتها، دون جدية حقيقية فى التوصل إلى صيغ ملزمة تجد طريقها إلى التنفيذ.
فى أحاديث المصالحة تتردد دعوات إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل حكومة فلسطينية موحدة، وصياغة برنامج مرحلى توافقى بين الفصائل يضبط حركتها وأولوياتها دون أن يكون الكلام جادا، أو مصدقا!
إذا كان هناك جديد ــ هذه المرة فى حوارات القاهرة ــ فإنه الجو العام عقب ما أبرزه الفلسطينيون من وحدة موقف ومصير بالمواجهات الأخيرة شمل فلسطين التاريخية كلها، القدس والضفة الغربية وغزة وخلف الجدار الأخضر، كما فى المخيمات والشتات.
كان ذلك داعيا بتفاعلاته لإعادة فتح ملف «الوحدة السياسية» بإنهاء الانقسام الذى أنهك القضية الفلسطينية ونال من عدالتها.
هناك عامل آخر مستجد يستدعى «الوحدة السياسية» حتى يكون الصوت الفلسطينى موحدا ومسموعا، فقد استدعت بسالة التصدى لآلة الاحتلال الإسرائيلى بالصدور العارية أمام المسجد الأقصى وفى حى «الشيخ جراح«، كما بصواريخ غزة، التى هزت بعمق ثقة إسرائيل فى نظرية أمنها رغم القوة غير المتماثلة، تعاطفا إنسانيا غير مسبوق مع الضحية الفلسطينية، التى تناهض التمييز العنصرى.
إعادة اكتشاف عدالة القضية الفلسطينية نقطة تحول جوهرية تتطلب تجاوز ألغام المصالحة، وإلا فإنه تفريط فى المعانى التى تجلت والتضحيات التى بذلت.
كان الانقسام الفلسطينى الثمرة المرة لاتفاقية «أوسلو»، ولم تتوانى إسرائيل عن توظيفه للإجهاز على القضية الفلسطينية كلها.
كان الزعيم الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» يعتقد أن بوسعه تحسين شروط اللعبة عند وضع أقدامه على أرض السلطة.
سمح بنوع من الزواج السرى بين السلطة والمقاومة، غير أن إسرائيل حاصرته، واخترقت صفوف رجاله، واغتالته بسم فى النهاية، دون أن يجرؤ أحد من أنصاره على طلب تحقيق دولى فى الاغتيال!
فى لحظة منحوه جائزة «نوبل للسلام» وفى لحظة تالية اعتبروه إرهابيا وعقبة أمام هذا السلام.
دفع «عرفات» الثمن فادحا من قضية عمره.. ومن مستقبل المنظمة التى ترأسها.. ومن الحركة التى أسسها.. ومن حياته فى نهاية اللعبة.
فى أعقاب «أوسلو» مباشرة استمعت من رئيس المجلس الوطنى الفلسطينى «سليم الزعنون ــ أبو الأديب» أثناء لقاء خاص فى بيت صديق فلسطينى مشترك بضاحية مدينة نصر يقول، وهو يقف منتشيا: «لقد أكّلهم أبو عمار الأكلة».!
كان صادقا فى مشاعره، يعتقد أن «عرفات» قد خدعهم، وتمكن من دخول الأراضى المحتلة، وأنه سوف يتمكن فى النهاية من بناء دولة مستقلة لها سيادة، وعاصمتها القدس.
كان ذلك ما يعتقد فيه «عرفات» نفسه.
حاول أن يؤسس لعمل مسلح سرى، وأن يبنى علاقات مختلفة مع فصائل المقاومة الأخرى تحول دون تصفيتها، قبل أن يكتشف فى الساعات الأخيرة من حياته أنه هو «الذى أكل الأكلة المسمومة»، وأن قضيته دخلت النفق المظلم على يديه.
هكذا أسست «أوسلو» للانقسام الفلسطينى.
بذات القدر أفسح ذلك الانقسام المجال واسعا لإهدار ما تبقى من أرض باسم «السلام مقابل السلام» و«سلام القوة» و«صفقة القرن» وإحالة القضية كلها إلى مشروع إعانات مالية واقتصادية بدلا من أن تكون قضية تحرر وطنى لشعب رازح تحت الاحتلال.
فى ذلك العام (2007) تبدى الانكشاف الفلسطينى مروعا فى أعمال مؤتمر «آنابوليس« تحت رعاية الرئيس الأمريكى الأسبق «جورج دبليو بوش».
لأسابيع طويلة اجتمعت وفود فلسطينية وإسرائيلية لإعداد وثيقة المؤتمر، قدمت مسودات عمل، أجريت تعديلات على الصيغ المقترحة، لم تكن تعنى شيئا له قيمة أو يفضى إلى اختراق.
تأكدت الأزمة فى مباحثات إضافية شهدها فندق «مندرين» الأمريكى بين وزيرة الخارجية الإسرائيلية «تسيبى ليفنى» ورئيس الوزراء الفلسطينى «أحمد قريع» وكبير المفاوضين «صائب عريقات، دون أن يكون هناك ما يجرى التفاوض عليه!
كان ذلك ما أرادته «ليفنى» بتأكيد الصحافة الإسرائيلية.
ثم اجتمع ثلاثتهم مع وزيرة الخارجية الأمريكية «كوندوليزا رايس» فى مطعم فرنسى فى «ووتر جيت».
قيل إسرائيليا بنوع من السخرية إن وجبة الأسماك الفاخرة أكثر جدوى من كلام لا جدوى فيه!
رفعت الأنخاب فى المطعم الفرنسى باسم «السلام»، ولم يكن هناك سلام أو كلام، أو استعداد إسرائيلى من أى نوع لتقديم أية بادرة تضفى صدقية ما على ادعاءات «أولمرت» باستعداد إسرائيل لتقديم ما أسماه «تنازلات مؤلمة!».
أخذت «ليفنى» فى المطعم الفرنسى ــ بحسب ما نشر فى الصحافة الإسرائيلية ــ تشرح لـ«قريع» حقيقة الموقف، حتى لا يتوهم أن هناك مفاوضات، أخذ ورد، وتنازلات إسرائيلية لحفظ ماء وجه «محمود عباس».
لخصت الموقف كله فى جملة واحدة: «هذا هو البيان.. خذه أو اتركه».
عندما بدأ «أولمرت» فى إلقاء بيانه بالمؤتمر الصحفى الثلاثى أخذ الإسرائيليون داخل قاعة المؤتمر يراقبون انفعالات الوفد السعودى ووزير خارجيته. على عكس نظرائه العرب لم يضع سماعة الترجمة على اذنيه تحت الكوفية السعودية الشهيرة، حتى يبدو أنه لا يهتم بما يقوله أولمرت، لعله حصل مسبقا على وعد من وزيرة الخارجية الأمريكية على ألا تجرى مصافحات إسرائيلية معه، فهو أمر محرج للسياسة السعودية، غير أن المشاركة السعودية فى مؤتمر «أنابوليس» أدت إلى كسر جدار عربى جديد.
كانت تلك المرة الأولى العلنية لتواجد خليجى فى مشهد يوصف بالسلام.
فى ذلك الوقت سخر الإسرائيليون من عنوان تصدر غلاف «الايكونوميست» البريطانية وصف بوش بأنه: «مستر فلسطين». وكان التعليق أنهم اختاروا «الرجل الخطأ»!
فيما بعد وقعت الرهانات العربية على رجال أسوأ من «بوش» وجرى استثمار الانشطار الفلسطينى فى الاندفاع لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، دون أدنى التزام بما تقضى به المبادرة العربية، التى قدمتها السعودية، من مقايضة التطبيع الكامل بالانسحاب الشامل من الأراضى العربية المحتلة منذ يونيو (1967).
كانت تلك أوضاع انهيار فى القضية الفلسطينية.
بمضى الوقت زادت المشاحنات وتراكمت الكراهيات وبدت المصالحة أقرب إلى مشى فوق حقل ألغام.
فى عام (2010) لم يمانع رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس» فى الذهاب إلى «الإيباك» حيث مركز النفوذ الصهيونى بالولايات المتحدة الأمريكية، فيما كان يمانع فى الذهاب إلى غزة.
فى شرح أسبابه ومبرراته عزا ذلك إلى عدم توقيع «حماس» على الورقة المصرية المقترحة للمصالحة.
قال: «لن أوقع على اتفاق سلام قبل عودة غزة»، لكن غزة واقعة تحت سيطرة «حماس»، وهو يحملها مسئولية الانقسام، ومسئولية التدهور، ويعفى نفسه من المسئولية، ولا يبدو مستعدا لتفاهم جديد مع «حماس»، فـ«إعادة النظر فى ورقة المصالحة المصرية تستدعى إعطاء الحق ذاته للفصائل الفلسطينية الأخرى». وهذا سوف يؤدى إلى «عدم إغلاق الملف أبدا».. «حماس» عليها أن توقع أولا على هذه الورقة.. وبعد هذا التوقيع سوف نعلن تشكيل حكومة تكنوقراط يكون بوسعها تلقى أموال تعمير غزة التى تعهدت بها الدول الكبرى فى قمة «شرم الشيخ» التى أعقبت العدوان على القطاع.
وقال: «عندما توقع الورقة المصرية فسوف نذهب فورا لانتخابات تشريعية ورئاسية لن أترشح فيها»!
لم يحدث شيئا من ذلك حتى الآن، لا أجريت انتخابات تشريعية ورئاسية، ولا جرت مصالحة من الأساس، ولا استقال من منصبه.
أخشى أن يتكرر الكلام نفسه، أو بشىء من التعديل فى «حوارات القاهرة»، أو أن يقتصر مفهوم المصالحة على تضميد بعض الجراح والتقاط بعض الصور دون الدخول إلى صلب ما يحتاجه الفلسطينيون الآن ــ وحدة سياسية حقيقية تضع القضية على مسار جديد.